Atwasat

الفساد المسلح

سالم العوكلي الثلاثاء 01 سبتمبر 2020, 12:58 مساء
سالم العوكلي

لابد من توطئة في البداية تساعد في تقليص حالة سوء الفهم حين أتحدث عن طرابلس، لأني حين أذكر طرابلس فإني أعني ليبيا باعتبارها العاصمة التي تتركز فيها كل المؤسسات السيادية، ولأنها تمثل ماضي وحاضر ومستقبل ليبيا السياسي شئنا أم أبينا، بل أن اسم طرابلس تاريخيا كان يعني إقليم ليبيا كله.

سبق أن كتبت أكثر من مرة عن أوضاع الدولة في العراق في سياق حديثي عن دولة الميليشيات أو السلاح الخارج عن الشرعية والقانون، ومدى تحكمها في المشهد السياسي، أو حكمها المختفي خلف مظاهر براقة للدولة المدنية، وحين تكون مثل هذه الميليشيات ــ في أي دولة أو أمة ــ أقوى من/ أو موازية للقوة العسكرية الرسمية التي من المفترض أن تحتكر حمل السلاح أو استخدام القوة، فلن تستطيع هذه الدولة القيام بأي مهمة من مهامها مهما تعاقبت الانتخابات أو الحكومات.

وفي الكتابات السابقة، في السياق نفسه، تطرقت للحراك المدني العراقي الذي بدأ احتجاجا على الفساد ثم صعّد مطالبه إلى إسقاط الطبقة السياسية كلها، مثلما حدث في لبنان بالضبط. وكتبت عن قتلى وجرحى ومخطوفي هذا الحراك، وعمليات الاغتيال، التي عادة ما تنسب جميعها إلى مجموعات مجهولة أمام عجز القوى الأمنية الرسمية عن حماية المتظاهرين أو ملاحقة القتلة والمجرمين، لأن الجميع يعرف أنها أقوى من القوى الرسمية بما فيها الجيش وجهاز الشرطة. وفي صدد التشدق بالدفاع عن الدولة المدنية في ليبيا حذرت من الدولة المدنية أو أي دولة تعمل في ظل الميليشيات وهو أمر قد يستمر عقودا طويلة، تستمر فيه الانتخابات وتغيير الحكومات والرؤساء دون أن يتغير شيء في الواقع، لأن كل هذا شكل ديمقراطي لدولة جوهرها مستبد عبر تحكم الميليشيات في كل السلطات الشرعية التي دائما تعبر عن عجزها عن التغيير أو الإصلاح حتى وإن كانت راغبة فيه حقا ومتحمسة له.

يحيلني هذا إلى مخاوفي السابقة إذا ما حدثت مظاهرات سلمية في ظل الدولة (المدنية) في طرابلس، وما مصير هذه التظاهرات أمام تغول الميليشيات؟ وحرصها على أن لا يتغير شيء، وأن يستمر الانقسام والفوضى في ليبيا لأنهما مصدر وجودها واستمرارها ورزقها. وهذا ما اتضح منذ بداية حراك (همة شباب ليبيا) الذي يحمل هذا الاسم الدقيق والمعبر الذي يتضمن هدفا في داخله بكون المعنيون به طبقة الشباب المدني المهمشة وفي كل ليبيا. وهذا الحراك أفضل ما حدث في ليبيا في السنوات الأخيرة ومنذ إجهاض المسار السياسي الديمقراطي عبر حرب فجر ليبيا. وهو حراك يشبه ما حدث في العراق ولبنان، بدأ بمطالب حياتية وشعارات ضد الفساد، ثم صعّد مطالبه بإسقاط النظام، بمعنى إسقاط الطبقة السياسية في ليبيا كلها، لأنه يدرك أن سدنة الفساد لا يمكن أن يحاربوه.

المشكلة في ليبيا أن الفساد ليس فساد تكنوقراط أو موظفين أو أصحاب نفوذ سياسي أو عشائري فقط، لكنه فساد مدجج بكل أنواع السلاح، وقادر على الدفاع عن نفسه ليس بالنفوذ أو شراء الذمم أو دفع الرشى أو غيرها من الطرق السلمية، لكنه قادر على الدفاع عن نفسه باستخدام الأسلحة الثقيلة في وجه كل حراك ضد هذا الفساد. وهذا ما حدث مع هذا الحراك حين أصبحت التقارير أو البيانات تتحدث منذ البداية عن مجموعات مجهولة تطلق الرصاص الحي على المتظاهرين، أو الحديث عن اختطاف بعض قيادات الحراك. اختطاف وليس قبضا أو اعتقالا كما يحدث في الدول التي مازالت تحتفظ ببعض الاحترام لنفسها، وهذه مصطلحات لا يمكن أن تسود إلا في دولة تحكمها ميليشيات، بغض النظر عما تتباهي به أمام العالم من شرعية أو حكومة مفوضة أو وزارة داخلية أو غيرها من التسميات الخادعة. وهذه المجوعات المجهولة (المعروفة) شبيهة بالمجموعات التي تطلق النار أو تغتال الناشطين في العراق، والتي تعرفها جميع الأجهزة الرسمية لكن لا تستطيع إيقافها أو ملاحقتها.

ميزة حراك همة شباب ليبيا أنه يعي كل المحاذير، فهو لا يريد أن يُحتوَى داخل أي استقطاب في ليبيا، ولا أن يتم امتطاؤه من أي طرف أو جناح سياسي، لأنه نابع من معاناة المواطن الليبي في كل المدن والقرى الليبية، وكونه بدأ في مدن الغرب الليبي لا يعني أنه لن ينتقل إلى مدن الشرق (فالمشكى واحد) كما نقول بلهجتنا. لكن ثمة فارق لابد من التطرق إليه فيما يخص الشرق الليبي ــ وحين أقول الشرق فإني أعني هنا إقليما من ليبيا يدرك أن صلاحه لن يكون إلا بصلاح عاصمته طرابلس ــ ويكمن هذا الفارق في كون الشيء الوحيد الذي يمنع خروج حراك للمدن الشرقية حتى الآن كون حكومتهم المؤقتة غير معترف بها دوليا، كما أن هذه الحكومة الموازية لا تملك أي إمكانات، فمصدر الدخل الوحيد لليبيا هو النفط، والنفط يصب إيراده في البنك المركزي وبالتالي هو في متناول حكومة السراج، وأي رئيس وزراء لا تعطيه برنامجا لتنفيذه ولا ميزانية لا يمكن أن تحاسبه، طبعا دون أن نغفل تقارير الفساد التي ظهرت بخصوص الحكومة المؤقتة حول المبالغ الصغيرة التي تقترضها من المصارف التجارية، وهنا يظهر فارق آخر، فتلك التقارير تتحدث عن فساد بمئات الآلاف بينما في حكومة الوفاق تقدر السرقات حسب تقارير الأمم المتحدة بالمليارات، وهذا طبيعي طالما مركز نافورة المال الليبي في طرابلس فالبعيد لن يناله إلا الرذاذ، وسبق أن ذكرت أن الفساد منتشر في كل ليبيا، والكثيرون ممن ينتقدون المركزية منطلقهم للأسف هذا الجانب (مركزية الفساد) بمعنى المطالبة بالتوزيع العادل لفرص الفساد، خصوصا في السنوات الأخيرة التي لم تُقم فيها أي مشاريع تنموية.

أقف قلبا وقالبا مع حراك (همة شباب ليبيا) وأتمنى أن يلتحم كل الشباب في ليبيا مع هذا الحراك للمطالبة بإسقاط كل الطبقة السياسية وأجسامها المتعفنة، دون أن أخفي خوفي على شبان وشابات طرابلس المبادرين، لأنهم يتحركون سلميا وسط ميليشيات مجرمة لم تعرف طيلة سنوات تكوينها سوى القتل والأربعطاش ونص والجراد والبي كي تي، وليس في قاموسها قنابل مسيلة للدموع، أو رصاص مطاطي، أو ماء ساخن، مثلما ليس في قاموسها مصطلحات قبض أو اعتقال، بل خطف.

كما أنتقد بشدة القنوات التعبوية المحلية في الشرق التي تسعى لتجيير هذا الحراك لصالح طرفها، وهذا موقف ليس أخلاقيا لأنه سيؤدي لمزيد من التنكيل بهؤلاء الشباب المستقلين المتظاهرين سلميا خارج أي احتواء سياسي أو أيديولوجي أو جهوي أو قبلي. وأرجو من بعض النواب في البرلمان الذي يظهرون في بعض الفضائيات محاولين توظيف هذا الحراك لصالح طرفهم، أن يخرسوا، لأنهم جزء من الطبقة السياسية المراد إسقاطها، ولأنهم أسهموا في الوصول بمدن الشرق المتحدثين باسمها إلى نفس المعاناة إن لم تكن أنكى، وحتى لا يقعوا في إحراج حين تقترب المظاهرات يوما ما من بيوتهم.

ملاحظة أخيرة:حين ظهرت مظاهرات في طرابلس بداية حراك فبراير نُكِّل بها بقوة لأن كتائب أو ميليشيات القذافي كانت متمركزة في العاصمة، وحين ظهر هذا الحراك الجديد في طرابلس يُنكل به بقوة لأن كتائب أو ميليشيات السراج وباشاغا متمركزة في طرابلس، وهذا ثمن دائما تدفعه العواصم المحسودة. والطرابلسيون الذين يعرفون هذا الثمن لم يرحهم يوما أن تكون مدينتهم المسالمة بطبيعتها عاصمة، لأنها عانت دائما من هذا الدور الذي تلعبه، ولأن العنف على مر التاريخ كان يأتيها من خارجها وتدفع ثمنه. فطرابلس حاضرة عظيمة ولا تليق بها هذه المظاهر المسلحة، ولا يليق بها معسكرات احتجاز المهاجرين التي ترتكب فيها أقذر الجرائم على مر تاريخ الإنسانية والتي تشوه سمعة ليبيا وكل ليبي.