Atwasat

عن القرود

محمد عقيلة العمامي الإثنين 31 أغسطس 2020, 10:05 صباحا
محمد عقيلة العمامي

كما أغلب المهووسين بمعارض الكتب، الذين يشترون كتبا كثيرة والعديد منها يظل مركونا لسنوات! "أفروديت" من تلك الكتب التي انتقيتها من معرض القاهرة سنة 2001، ففي تلك الفترة اهتممت بالرواية، وكانت الروائية (ايزابيل الليندي) حينها أبرز الروائيين، ولكن ما إن تصفحته حتى اكتشفت أنه ليس برواية فتركته جانبا.

وكنت أقول لنفسي كلما مررت على الكتب المتروكة جانبا، أنه سوف يأتي وقت قراءتها بعدما أتقاعد! ولكن العمر يمضي سريعا، ومن دون رغبة حقيقية في الاعتراف أن وقت التقاعد مضت عليه سنوات عديدة. وأخذتني الكتابة المهنية، التي هي في مجملها إما توثيقية، أو خبرية أو ترجمة لما يدور في العالم، خصوصا لما يتعلق بالشأن الليبي.

ولأنني أرى رفاقا استنشقوا هواء بنغازي قبلي، ومَلأوا الدنيا مبكرا نشاطا وتنظيرا، وسياسة ثم معارضة! ومازالوا إلى الآن يبتكرون كل حين مشروعا يحتاج إلى جهد كتيبة كاملة، لوضعه على الطريق الصحيح، فأفرد ظهري مؤكدا لنفسي أنني أصغر منهم سنا، وأنه ما زال في القنديل زيت، وأتجاهل أنني اتجهت متأخرا إلى مهنة المتاعب والتشرد، بل في الواقع لم ألتحق بهذه المهنة إلاّ بعد أن تقاعدت بالفعل من الحياة العملية، وأنا أعني من تلك التي توفر مالا أكثر.

فأنا، مثلما قلت مررا، أن رغبة الكتابة ظلت كجمر تحت الرماد، أو كدمل يتلذذ المرء به عندما يداعبه بإصبعه. كانت رغبتي في الكتابة قوية، ولكنني أبعدتها تماما من اهتماماتي حتى أنفذ من دائرة الفقر الذي حاصرني طويلا، وأحمد الله أنني انتبهت لذلك مبكرا؛ عندما بحثت، وتساءلت: "أين هو الكاتب الثرى؟"، ولم أجد أحدا سوى "جنقي" الذي لم أر أكثر منه ثراء في محبة الناس! وهذا في تقديري هو الثراء الحقيقي. ولكن لم يخطر ببالي، أبدا، أنني سوف أتعيّش، من مهنة المتاعب هذه خلال تقاعدي!

ولعلني أستطيع القول، أنني أمتهن كتابة مهنية أتعيش منها وأكتب في الوقت نفسه إبداع كاتب متقاعد. ولأن الكتابة الإبداعية تحتاج إلى قراءة متصلة، وأن أسعار الكتب حاليا، وصلت حد الترف، عدت إلى كتبي القديمة التي لم اقرأها، على الأقل لأقنع نفسي أنني متابع يعرف كيف يلتقط أفكاره من بين السطور.

(أفروديت) كتاب ممتع جدا، ويكفي أنه يتناول موضوعين شغلا البشرية، وتسببا في حروب، وأيضا أفراح وهما الحب والغذاء؛ شهوتان إنسانيتان هما الاستمتاع بحافزي الحياة: الأكل والجنس. ولقد ربطت الروائية بينهما بمهارة من دون ابتذال أو إسفاف، مبرزة كيف يكون الغذاء وطقوسه ونكهاته الوسيلة نحو اللقاءات الإنسانية الحميمية بين المحبين والعشاق، مبينة العديد من الطرائف التي انتقتها من العالم كله، لتقدمها من خلال طرفة، رابطة ببراعة ما بين وصفات غذائية، منها ما هو منطقي، ومنها ما هو خيالي، غرائبي. منها ما هو مقنع ومنها ما هو خرافي. مستخدمة مصطلح "الأيروسيه" المستمد من "إيروس Eros" إله الحب والرغبة والجنس في الميثولوجيا اليونانية.

"جماليّة الآيروسيّة " تتناولِ الجسد بجمالِهِ وقدسيّتِهِ، من الأحاسيسِ العميقةِ الرّزينة، ولهذا استلهمت أبعادَها مِن جزيئيّات قوالبِ الحياة، فتفتحت مداركَ واسعةَ الرّؤى، بعيدًا عن الاستهتارِ والابتذال، من دون رفض الرغبة والجنس.

ولعل ذلك ما يميز الإنسان عن الحيوان، وعلى الرغم من أن الغاية واحدة إلاّ ان السبل إليها تختلف بينهما تماما. القرود، مثلا، التي يعتبرها البعض انها الأقرب للإنسان تنفذها من خلال الغذاء ولكن ليس بمثل وصفات "الليزيبت الليندي" الأيروسية. فاسمعوا مني هذه الحكاية:
منذ حوالي أربعين عاما كنت في السودان رفقة صديقين، هما مصطفى الكرامي، ومحمد شرمدو في محاولة لإيجاد فرصة تعاون استثماري مشترك، والتقينا بشاب من الجفرة، كان قد بدأ مشروعا بسيطا يتلخص في تمويل مُزارعي السمسم، وتسويق إنتاجه. ولقد رافقتنا لجنة شكلتها الحكومة السودانية ترأسها رجل مثقف حكّاء بديع، واستعرضنا خلال أسبوعين مشاريع عديدة، لم ينفذ منها مشروع واحد! ولكن مشروع السمسم نجح نجاحا باهرا، وكان الشاب قد اقترح المشاركة وتوسيع المشروع. ولكننا لم نوله الاهتمام الذي يستحقه، لم نقبل أن نعود بمشروع تمويل مزارعي "السمسم"، فأحدنا قال: "أخرتها جلجلان! " وفشلت رحلتنا ونجح مشروع السمسم الذي نفذه الشاب بمفرده، وعلمت فيما بعد أنه أصبح أهم مصادر تصدير السمسم، يعني المادة الخام لحلوة "بر الترك". فمن بمقدوره ان يفيدنا كم طن تستهلكه مصر وحدها من الحلاوة الطحينية؟

التقيت هذا الشاب في روما، من بعد أن تغيرت أحواله وأصبح رجل أعمال مشهورا في السودان. وتلك الليلة سألته عن آخر مشاريعه. أجابني: "هل تتذكر جذور نبات القرود؟". ولقد تذكرتها! وتحدثنا عن أحد الرفاق، الذي ثابر بدرجة منقطعة النظير ليحصل على بعض منها، ولكن لأنه لم يكن مُوسمها فجاءوا إليه بقطعة من ذيل تمساح، وقالوا له أنها فعالة كجذور نبات القرود!

أما جذور نبات القرود فقد أخبرنا عنها رئيس لجنة السودان؛ فقد حدثنا عن بعض فصائل القرود، التي تعيش في السودان، وكيف أنها خلال فترة محدده تتجه ذكورها نحو أماكن تعرفها، لتستخرج منها هذه الجذور وتأكلها استعدادا لموسم التسافد! وعادة ما تسلك معظم القرود طرقا ملتوية لتمويه بقية القرود عن أماكن تواجدها، وتحاول بشتى السبل ألاّ يصل إليها غيرها، فرئاسة (قطيع) القرود مرتبطة بالدرجة الأولى بفحولة الذكر ومقدرته على إرضاء إناثه!! واكتشف الإنسان هذا السلوك، فأخذ يتربص بهذه القرود ويتتبعها، من دون أن تشعر به، وما إن تصل إليها، حتى يطلق اعيرته النارية فتهرب القرود، ويستولي على هذه الجذور، ليحل مشكلته، تاركا القرود تواجه مشاكلها مع إناثها.

حسنا! شاب "الجلجلان" هذا جاء بعّينة من جذور القرود، إلى إيطاليا لدراسة إمكانية تطويرها، كان ذلك قبل اكتشاف "الفياجرا"!

والسؤال الذي شغلني، هل كان لدى الإله "إيروس" علم بجذور القرود؟ وهل وردت هذه الجذور في كتاب "الليزيبت الليندي". أقول إن ما ذكرته في كتابها من أشياء تفوق مقدرة القرود على معرفته. إن وصفات الأكلات، وطرق تقديمها ومكوناتها فن ساحر أخّاذ لا يحتاج إلاّ إلى روح تعشق الطهي وتتفنن فيه. وأنا أعني طهي الأطباق الجيدة، كالتي أعدها لنا ذات ليلة صديقنا الموهوب الفنان السنوسي ستيته، الذي درس الفن التشكيلي في مهده بايطاليا، وأثرى المكتبة العربية بأطروحة لم يسبقه إليها أحد عن هذا الفن والألوان. فالطهي إبداع، تماما كالفن التشكيل