Atwasat

تفكيك السفينة الليبية في عُرض البحر

عبدالرحمن هابيل الإثنين 24 أغسطس 2020, 02:38 صباحا
عبدالرحمن هابيل

منذ نحو تسع سنوات «في 13 سبتمبر 2011»، والثورة الليبية في عنفوانها، حذّرتُ على صفحات «الشرق الأوسط» من انزلاق ليبيا نحو التطرف والتشظي، إن لم تبادر القوى السياسية آنذاك باللقاء حول ميثاق للوحدة الوطنية. ولكنْ كان ما كان، وما بادرت تلك القوى وما التقت، فَغَشِيَ البلاد من التطرف ما غشِيَها، وكابدت من التشظي ما كابدته.

لا يعرف الكثيرون أن ليبيا كانت موحدة قبل ألمانيا والولايات المتحدة، وأنه كانت في القرن الثامن عشر، قبل أن توجد إيطاليا، قنصليات لتسكانيا وجنوى في طرابلس عندما كانت عاصمة لدولة موحدة تمتد نحو 2000كم على شاطئ المتوسط من الغرب إلى الشرق.

منذ قديم التاريخ وشرق ليبيا وغربها وجنوبها الغربي يشكل كل منها عمقا للآخر. ففي سنة 74 ق.م، على الأقل، كان شرقها وغربها «برقة » إقليمين رومانيين. وفي سنة 202 أدرك الإمبراطور الروماني الليبي سبتميوس سيفيروس الأهمية الإستراتيجية لجنوب غرب ليبيا «إقليم فزان»، الذي استفردت به المملكة الجرمنتية، فاسترده منها وأعاده عمقا للشمال الليبي. أما في التاريخ الحديث، فقد قام أحمد باشا القرمنلي، مؤسس الدولة القرمنلية في ليبيا سنة 1711، بترسيخ التكامل الإستراتيجي لأقاليم البلاد، عندما استجاب لطلب شيخ قبيلة العبيدات بضخ دماء جديدة من طرابلس في برقة، فـ«جرّد»، أي أنفذ، قبائل من الغرب «نحو العام 1720» للتوطن في مدينة درنة للتأكيد على وحدة التركيبة السكانية في البلاد، ولذلك اشتهرت هذه الموجة من الهجرة باسم «التجريدة». ولم تكن هذه المرة الأولى أو الأخيرة لتبادل الهجرات بين الإقليمين، فقد سبقت الهجرة الحضرية إلى درنة هجرات لقبائل بدوية من الغرب أصبح بعضها من أقوى القبائل شكيمة في برقة، كما تلتها موجات هجرة متوالية إلى بنغازي ومدن أخرى، بحيث يقال إن نحو نصف سكان برقة هم من أصول حديثة أو قديمة من الغرب. وقد أثبتت الأيام حكمة أحمد باشا، والتكامل الإستراتيجي بين شقي البلاد، فبعد «التجريدة» بنحو قرن، عندما عرقلت القوى الغربية الحركة التجارية في ميناء طرابلس، تحول النشاط التجاري إلى ميناء بنغازي في برقة، نحو ألف كيلومتر إلى الشرق. 

إن شواهد الوحدة الوطنية الليبية لا تقتصر على موجات الهجرة بين الغرب والشرق، بل يدعمها المزيج الديمغرافي العربي الأمازيغي. ومن المؤسف أن الدراسات الأنثروبولوجية لليبيا ليست في مستوى تاريخها وجغرافيتها، وإلا فإن مؤشرات الوحدة العميقة تتخلل مفاصل بنيتها الاجتماعية والثقافية من برقة إلى طرابلس إلى فزان. فمن العجيب، على سبيل المثال، أن تسبق أسماء كثير من القبائل في برقة كلمة «عيت»، وهي ليست اختصار «عائلة»، كما قد يظن البعض، بل هي أمازيغية تأتي قبل أسماء كثير من عوائل الأمازيغ، بينما تسبق أسماء العديد من القبائل في إقليمي طرابلس وفزان كلمة «أولاد» العربية! إن الأنثروبولوجيا تثبت أن كثيرا من القبائل كانت أمازيغية فاستعربت في شرق البلاد وغربها، وأن النسيج العربي الأمازيغي لا يقتصر على الغرب كما قد يتوهم البعض. 

كما أن من المحطات البارزة في تاريخ ليبيا الموحدة أن الدولة الأميركية، الناشئة في حينها، وفي أول مغامرة لبحريتها بعيدا عن الشواطئ الأميركية، هاجمت الدولة القرمنلية في درنة في أقصى الشرق الليبي «سنة 1805». وقد انتهت هذه الحملة بصلح دفعت أميركا بموجبه غرامة مالية، وما زال نشيد البحرية الأميركية إلى يومنا هذا يصدح بذكر «شواطئ طرابلس». 

وبعد أفول الدولة القرمنلية عاد الحكم العثماني المركزي إلى ليبيا «سنة 1835»، ولكن البلاد استمرت ولاية واحدة، وكذلك مرت كلها بمحنة الاحتلال الإيطالي «1911» حتى هزيمة إيطاليا في الحرب العالمية الثانية «1942». لقد وقعت فزان تحت السيطرة الفرنسية، وخضعت برقة وطرابلس كلتاهما للإدارة البريطانية، ولكن بريطانيا أدارت الإقليمين بإدارتين منفصلتين! وهنا يظن الكثيرون، لضعف الذاكرة الوطنية، أن إدريس السنوسي، الذي أصبح ملكا للبلاد سنة الاستقلال «1951»، لم يصبح رمزا للوحدة الوطنية إلا في ذلك التاريخ، ويفوتهم أنه بويع أميرا للبلاد منذ مؤتمر غريان العام 1922. لقد شهدنا أخيرا مسلسلا تلفزيونيا بعنوان «الزعيمان» «سليمان الباروني وبشير السعداوي» وكلاهما من مشاهير زعماء المنطقة الغربية. إننا ننحني إجلالا لهذين الزعيمين الكبيرين ولكننا لا ندري سبب التعتيم في هذه الفترة الحرجة التي نمر بها على معالم الوحدة الوطنية ورمزها الأول إدريس السنوسي، كما لا ندري لما لمْ تبايع قيادات المنطقة الغربية أيّا من الزعيمين أميرا للبلاد في غريان سنة 1922. 

لقد أدركت قيادات المنطقة الغربية في غريان 1922 أن السنوسية ترتفع فوق الانتماءات الجهوية والقبلية في ليبيا كلها. إن أي زعيم من طرابلس سيزايد عليه زعماء قبَليون أو جهويون من طرابلس نفسها، وسيزايدون عليه في برقة لأنه من طرابلس، والعكس صحيح. أمّا السنوسية فليست هوية جهوية أو قبلية بل هي هوية وطنية لا غير بالنظر إلى رسالتها الإصلاحية التي تقوم على الفكر والعمل، لا على العصبية العظامية. 

إن ليبيا، وكلٌّ يدّعي وصْلًا بليبيا، لم تكن لتوجد موحدة مستقلة لولا إدريس السنوسي وما حظي به من إجماع وطني وتوافق دولي.

لقد تكامل الشرق والغرب وتبادلا الأدوار. لقد قادت طرابلس البلاد في العهد القرمنلي وقادت برقة عهد الإصلاح السنوسي وعهد الاستقلال. لقد استقلت برقة أولا في 1949، ولكن الآباء المؤسسين أدركوا ألّا بقاء، في منطقة شديدة الاستقطاب، لنصف البلاد دون نصفها الآخر، فاستقلت ليبيا كلها تحت زعامة أمير برقة إدريس السنوسي الذي أصبح ملكا للبلاد. وابتدأ النظام الملكي فدراليا بدستور 1951 ثم ألغيت الفدرالية سنة 1963. 

إن تجربة النظام السابق «1969-2011» هي التي أوغرت الصدور وولّدت الضغائن، فإن برقة، وأهلها يرون أن معظم الموارد فيها، ذاقت، واقعيا ونفسيا، مرارة الحرمان والإقصاء أكثر من غيرها في ذلك العهد. ولكن دعوات العودة إلى الفدرالية أثناء المنعطف الراهن تنسى أن الفدرالية نظام دستوري لا يمكن إعادته بعد أن ألغي إلا باستفتاء دستوري. كما أن الفدرالية، وإن كانت غير معلنة واتخذت أشكالا للتقسيم مختلفة هذه الأيام، هي خطوة في الظلام، أثناء المختنق الخطير الذي يجثم على البلاد هذه الأيام، إذ قد لا يكون بعدها إلا الانفصال الكامل، وقد تهيأت له البلاد بانقسام حكوماتها ومجالسها النيابية منذ 2014. إن المرء قد يستكثر دينارا واحدا في أيدي بعض الفاسدين في طرابلس، لكن التنافس على الفساد على أشدّه «من بابها لمحرابها». ما الفرق بين أن تبعثر الأموال غربا أو شرقا ما ظل السواد الأعظم محروما منها؟ وما دامت البلاد موشكة على الضياع؟ إن الانقسام قد يشفي بعض الصدور من باب النكاية أو المصالح الجهوية المادية الضيقة، ولكنه عقوق للآباء المؤسسين، ولن يسفر إلا عن كيانات قزمية لن تحظى باحترام أو حتى شفقة الأقربين قبل الأبعدين. إن من حق الشعب الليبي في برقة أن يُستفتى في شأن الفدرالية استفتاء حرا تحت إشراف دولي، ولكن كيف السبيل إلى ذلك في هذا الظرف العصيب؟ 

إن دستور الاستقلال لسنة 1951 المعدل سنة 1963 معطّل منذ 1969 ولم يستفت الشعب الليبي في إلغائه. ما أحوجنا إلى اتفاق سياسي جديد يوقعه ممثلون عن مجلس النواب ومجلس الدولة والمجلس الرئاسي، وتخرج به البلاد من الفراغ الدستوري والمخاطر الداهمة بالعودة إلى دستور الاستقلال والنظام الملكي القائم عليه. وقد تكون هذه العودة لفترة انتقالية يستفتى بعدها الشعب بين تعديل دستور الاستقلال ومشروع الدستور الجديد «المتعثر منذ فوات موعد إنجازه في 24 مارس 2016» المُعدّ من قبل هيئة صياغة الدستور. وإذا وقع الاختيار على دستور الاستقلال فيتم تعديله وفقا لرغبة الشعب «بما في ذلك سؤال الفدرالية أو اللامركزية» وأحدث تجارب الملكية الدستورية المناسبة.

عندما تُفكّك السفينة على الشاطئ، قد يجد المتقاسمون في أشلائها ما يلفّقون به زوارق يتعلّلون بها وإن ابتلعتها الأمواج بعد حين. ولكنها إذا خُرقت في عُرض البحر فإن «مساكين يعملون في البحر» يرتزقون منها لن يجدوا حتى ما يعصمهم من الماء.