Atwasat

"سيدحم"!!

صالح الحاراتي الأحد 16 أغسطس 2020, 12:51 مساء
صالح الحاراتي

كان لدي مزرعة صغيرة وأردت أن أبني فيها دارا للمزارع الذى يشرف عليها، أشار عليَّ أحد الجيران ورشح لي "أسطى" بناء وقال فيه من كلمات الشكر ما جعلني أتمنى أن يكون متفرغا في أقرب الآجال حتى يباشر عمله معي.. مضت أيام قليلة حتى جاءنى الأسطى ليرى ما هو المطلوب.

طويل القامة نحيل الجسم دائم الابتسامة يتحدث العربية بهدوء وبلهجة أهل الجنوب، اتفقنا على كل التفاصيل والأتعاب لبناء دار الخفير أو المزارع وبدأ العمل، لم يستغرق العمل إلا أياما معدودات حتى انتهى.. ولكن علاقتي معه لم تنتهِ عند هذا الحد بل صار يعتبرني صديقا وأنا أبادله نفس الشعور..

وكان يستشيرني فى بعض ما يواجهه من أحداث أو عراقيل..

كان "حكاي" راويا جيدا لكثير من الحوادث التى مر بها فى حياته وكنت أستمع إليه باهتمام، مما لفت انتباهى أيضا إلى أنه عازف غيتار جيد ويغني عندما يخلو لنفسه وقت الراحة.

لنقترب أكثر من هذا الصديق.. هو من الطوارق.. وأصله من شمال دولة مالي فى غرب أفريقيا..

اسمه "سيدحم" وينادونه فى ليبيا بـ "حامد".. دخل ليبيا بطريقة غير قانونية وكان عمره 14سنة، التقى ببعض معارفه ممن سبقوه في الدخول إلى ليبيا وهناك أخبروه أن الدولة فى ذلك الزمان تريد إنشاء وحدة عسكرية تسمى "الفيلق الأفريقى" وأنها فرصة للحصول على راتب وإقامة شرعية فقبل سيدحم العرض.. تنقل فى عدة أماكن للتدريب ووصل حتى الكفرة فى الجنوب الشرقي وهو الذي دخل ليبيا من الجنوب الغربى.

مضت الأيام والشهور ولم يستمر العمل وتم تسريحهم حيث يبدو أن فكرة الفيلق الأفريقى قد تم إلغاؤها أو تم تأجيل المضي فى تأسيسها..

وانتهى الأمر بأن تحصل "سيدحم" على بطاقة تعريف تسمح له بالتواجد القانونى فى البلاد.

مضت سنوات وسنوات حتى ظهرت حركة "بوكو حرام" المتطرفة فتذكرت "سيدحم" وما رواه لى من أمر حدث له حين كان يعيش طفولته فى شمال مالي، حيث كان أهله وباقي سكان قريتهم يأمرون كل الأطفال بمغادرة القرية إلى الجبال المحيطة على مسافة ﻻ تقل عن 5 كيلومتر بعد تزويدهم بالماء والحليب ليبقوا خارج القرية حتى قبيل الغروب بقليل، هروبا من اللجنة التى ترسلها الدولة لتعداد اأطفال فى القرية حتى يبنوا لهم مدرسة تناسب أعدادهم.. وروى لى أن ذلك الخروج كان اعتقادا من أولياء أمورهم بأن تعليم الدولة غربي ولذا فهو حرام!؟ ولا يمكن أن يسمحوا لأبنائهم بتلقي علوم الكفار!

كنت مذهولا وأنا أسمع هذه القصة رغم أن سيدحم الذي أراه أمامى قد تحرر من كل ذلك الأسر وتعلم القراءة والكتابة والموسيقى وقيادة السيارة والجرار، ولكنه يقول لى إن تجربته الخاصة ورحلة دخوله غير القانونى إلى ليبيا وما مر به من تجارب علمته الكثير بينما أقرانه في بلاده على حالهم.

يحضرنى قول لـ "إبراهيم البليهي" مفاده أن الغالبية من البشر يبقون بما هم عليه من الأفكار والمواقف الناتجة عن التنشئة الاجتماعية وأن القلة والنوادر هم فقط من يخترقون "البرمجة" أي التنشئة الاجتماعية التي تتم بطريقة آلية ويتشربها الفرد بتلقائية لتبقى تحكم تفكيره ونظرته للحياة.. وقرأت عن تنظيم "بوكوحرام" الإرهابى.. التي تعني التعليم الغربى حرام.. والتى انتشرت من نيجيريا إلى مالي والنيجر وتشاد.. وتذكرت ما رواه لى "سيدحم" مما جعلني أجد سببا لمثل تلك الظاهرة المتطرفة.. إذ لوعرفنا كيف كانت التنشئة والبرمجة العقلية لهم فى الصغر لن نستغرب سلوكهم وتصرفاتهم في الكبر.

القدر والحظ والفطنة والذكاء جعل من "سيدحم" يخرج من ذلك الوسط المتخلف إلى رحابة العالم ويتعلم حرفة البناء والموسيقى وحب الحياة..

هنيئا لك "سيدحم"