Atwasat

دنيا وأحوال

جمعة بوكليب الخميس 13 أغسطس 2020, 10:09 صباحا
جمعة بوكليب

كلما أمسكها متصفحاً، تنتقل نعومة ولمعان ورقها المصقول، تلقائياً ووقتياً، إلى يديَّ، ومنهما إلى خلايا جلدي، وتستحوذ على أنفي رائحة جذّابة، وفي قلبي أترصد غيرة تنبثق بأكثر من رأس. أقول مذكراً نفسي لعله الإحساس لا غير بما يمكن أن يفعله المال حين يستعرض فحولته علناً، على صفحات مجلة دعائية أسبوعية، موجهة إلى قراء من فئة محددة - أنا لست من ضمنهم - ممن وهب الله أفرادها أموالاً لا تقتصر فقط على شراء واقتناء سلع وبضائع بأسماء ماركات معروفة وغير معروفة بأثمان فلكية، بل والاستمتاع بما تقدمه المجلة لهم، أيضاً، من عروض فخمة للسياحة وللاسترواح في بلدان وأماكن أقرب ما تكون إلى جنان أرضية.

المجلة اسمها باللغة الانجليزية «HOW TO SPEND IT» وترجمتها حرفياً «كيف تنفقها» والمقصود كيف تنفق أموالك، وتصدر عن جريدة الفايننشال تايمز مع العدد الأسبوعي، وبحجم كبير، بغلاف جذّاب تحتله صور يعدّها مصورون مشهورون. وبإخراج صحفي أخر طرحه. ويكتب بها كتاب معروفون في عالم الأزياء والأثاث والساعات والسفريات... إلخ. وجزء من صفحاتها مخصص لأساتذة عالميين من كبار الطهاة في فن الطبخ، لتقديم إبداعاتهم، و... توزع مجاناً!

العلاقة بيننا –أنا والمجلة – لم يكن لها وجود في البداية. كنتُ، بمجرد العودة إلى البيت، حاملاً عُرْمَاً من الصحف الأسبوعية، أتخلص منها ومن غيرها من المجلات الدعائية المشابهة، من دون حتى محاولة تصفّحها ومعرفة محتوياتها. بعد ذلك، بدأ نوع من التقارب الحذر- من جانبي- بيننا، عندما راقت لي، ذات يوم، فكرة تصفّحها، ربما تخلّصاً من ملل. الخوض في مغامرة قراءة المقالات لم يبدأ إلا في فترات لاحقة. تمّ ذلك، صدفة، حين وددت معرفة ما ينشر بها إشباعاً لرغبة طارئة. ورغم أن تلك المقالات تنتمي إلى نوعية مختلفة لما تعودته، إلا أنني قرأتها. وأعترف أن بعضها استقطب اهتمامي لما احتواه من معلومات حول عالم كنت أظن أن لا وجود له على هذه الأرض الفانية. الأهم من ذلك، لاحظت أنني أنجذب إلى جماليات الإخراج الفني، والتصوير، والعرض، وغيرها من الأعمال ذات الصفة التقنية المهنية التي تحيل صفحة بيضاء إلى معرض بهيج من الألوان والصور تخاطب القلوب قبل أن تأسر العيون. الغريب أنني حافظت على عادة الاطلاع عليها، برغبة إشباع فضول عجيب تلبسني فجأة، ويبدو أنه نابع من جهة خفيّة في نفسي كانت مغمورة، لم تتح لها فرصة للظهور وللتعبير عن نفسها طوال الأعوام الماضية. ولم يكن ذلك بتقصد مني. فالناس عادة يفضلون السير في دروب حياتية تعودوا عليها، وعرفتهم. ويبدو كذلك أن العالم الذي تتوجه إلى ساكنيه المجلة ليس معروفاً لي، وكلما قرأت عنه وعرفته ازدادت شهيّتي، وتفاقمت غيرتي، وتأكد حضور حسرتي على ما أضعت من وقت وجهد في حياتي لاهثاً خلف أوهام لا وجود لها، في حين أن بعضنا حرص على أن ينال من هذه الدنيا الفانية أجمل وأحلى ما فيها. وحين اكتشفت ذلك، متأخراً جداً، ارتبكت أمور عالمي الصغير، وأدركت حقاً أن لا قدرة لي على تعويض ما فات. ويبدو، أخيراً، أن ما حدث لي يشبه ما يحدث لشخص تعوّد على أكل وجبة مكرونة كل يوم، ثم أكتشف في القنوات التلفزية وجود برامج طبخ، ووجبات ، وطهاة، وعالم يمشي على رأسه من أنواع أطعمة لا تخطر على بال. فأدمن متابعة تلك البرامج، لكنه في نهاية اليوم، لا يجد أمامه سوى طبق المكرونة، فيزدرده متألماً، متحسّراً.

والحقيقة أن علاقتي بالمجلة تظل في إطار الموضوعات الشخصية التي لا تهم غيري، وبالتالي، فإن خوضي في هذا الموضوع له علاقة بأمر آخر أكثر مدعاة للاهتمام، ألا وهو استمرار المجلة في الصدور بكامل فخامتها المعهودة، وكأن ما أحدثه الوباء الفيروسي من ضرر حدثٌ في كوكب آخر. فحين حلّ الوباء، وارتبك الواقع الحياتي، وبدأت الحكومات المختلفة سياسة رد العدوان، كانت الصحف والمجلات باختلافها عرضة كغيرها من النشاطات الاقتصادية لتداعيات انتشار الفيروس. ودخلت جميعها في نفق تحت الأرض بسبب تعقد أزماتها المالية، وغياب الإعلانات، مما اضطر أكثرها إلى تقليص صفحاتها. لكن مجلة «كيف تنفقها» واصلت الصدور، مما يعني أنها في مأمن من تداعيات الأزمة الاقتصادية، لأن المستهلكين الذين تتوجه إليهم في السوق هم كذلك لم تتمكن الأزمة من إلحاق الضرر بهم، وظلوا يتنعمون بما أنعم الله عليهم من ثروات، وامتيازات، ومواصلة متابعتهم لما ينشر من دعايات ترويجية لسلع بأسعار فلكية، ظلوا قادرين على دفع أثمانها. وهذا بدوره يقود إلى تفنيد المقولة التي تؤكد أن الوباء الفيروسي كالسيدة العدالة معصوب العينين ولا يميز بين فقير وغني. فالأغنياء في بريطانيا تمكنوا من مجابهته بتبني سياسة الهروب في طائرات خاصة إلى جزر سياحية لا تبعد كثيراً عن جنّات عدن، وتركوا للفقراء أمر الاشتباك معه، وتحمّل العواقب!