Atwasat

"جرجار أمه"

محمد عقيلة العمامي الإثنين 10 أغسطس 2020, 12:08 مساء
محمد عقيلة العمامي

عندما قرأت يوم الجمعة الماضية، أن مطار (أجوستي راي) في (بالي) أعيد افتتاحه بعد إغلاقه جراء وباء الكورونا، واستقبل من جاكرتا في اليوم الأول، حوالي 4000 راكب! تخيلت أني معهم، فغمرتني نسائم البحر وروائح الياسمين الفواحة، وتداعيات قوام فتيات رشيقات لا تكاد أقدامهن تلمس الأرض، وكأنهن يرقصن على أنغام موسيقى (الزيلوفون) الإيقاعية، التي يجيدها أهل (بالي)، ويعزفونها طوال الليل والنهار.

تذكرت، على الفور، زيارة لم تكن في الحسبان لهذه الجزيرة البديعة قبل أن تصبح واحدة من أفضل أماكن آسيا السياحية. كان ذلك منذ حوالي نصف قرن تقريبا! وخطر على بالي المهراجا ( باندنجي) الذي تخلى عن حكم المنطقة لأخية واختار شواطئ جزيرته فجعل من بالي قبلة لسياح العالم.

يقولون أن عشق البحر "حالة ذهنية"، وأنا أقول عشق المكان أيضا. أنا أعرف أن شاطئ بحر "جرجار امه"، يشكل هذه الحالة الذهنية لصديقي مفتاح الدغيلي، والواقع أنه ليس وحده المأخوذ بمنطقة "جرجار امه" وأيضا بحرها، بل أيضا شقيقة أستاذ جيلي كله السنوسي الدغيلي، وما انطلاقهما المفاجئ نحوه، إلاّ تأكيدا لذلك، فالبحر عندهما شط "جرجار أمه" والسمك أيضا، فالرحلة الحقيقية لا تكون إلاّ هناك! أخبرني صديقنا خليفة الفاخري، أنه ذات رحلة بحرية هناك، وفيما كانوا يتهيؤون للنوم، استيقظ مفتاح، وصلى الفجر، وقفز في البحر وأخذ يغني بصوت عال ويغطس ويسبح حتى أخذنا النوم، ولا أحد منا يعلم متى توقف!

تقاعد صديقي مفتاح مبكرا، واقتصرت متع الحياه عنده، على شعر المتنبي وأبي العلاء المعري، وأغاني أم كلثوم، وفوق ذلك كله مواصلة أصدقائه، وقضاء أوقات طيبة معهم على شاطئ "جرجار امه" اما بهجته الحقيقية فكانت عندما ينضج بلح عراجين نخلته الوحيدة، التي عانقت السماء في مدخل بيته، والتي لا يعلم أحد من زرعها، يقسم رطبها، ثم يوزعه بين أصدقائه!

حالة عشق المكان الذهنية انتبهت إليها منذ آواخر سبعينيات القرن الماضي، حينها كنت أعمل بشركة الأسواق الليبية، وانتقتني الإدارة العامة، لعله بسبب لغتي، ضمن وفد تجاري للتعاقد على التوابل، والبهارات ولوازم البخور، ولا أعتقد أن ثمة كلية علمت "الدلالات" وملوك العطارة في ليبيا، وبالتالي لم أكن أعرف أسماءها حتى باللغة العربية، ولكن ما إن وصلني جواب التكليف حتى ذهبت إلى جارنا الدافئ خليفة البراني، أحد رجال هذه التجارة، فعلمني طوال أسبوع أسماءها وأشكالها باللغتين الإنجليزية والإيطالية أيضا!
وانطلق وفدنا المكون من خمسة أشخاص، وكانت الرحلة تشمل أغلب دول قارة آسيا. وما إن وصلنا كراتشي، محطتنا الأولى في الباكستان، حتى وصلت برقية بإلغاء المهمة وضرورة عودة الوفد سريعا إلى ليبيا. ولما كنت أنا من حدد خط سير الرحلة، التي لا أبالغ إن قلت إنها غطت معظم عواصم آسيا الشهيرة، قررت عدم العودة إلاّ بعد إتمامها، ورؤية العواصم التي تحددت في تذكرة السفر!. ولذلك استفسرت من رئيسي في بنغازي الحاج فرج الفيتوري، وعلمت منه أن الإلغاء جاء من الأستاذ أبوزيد دورده، وزير الاقتصاد حينها، لأن الأسواق لم توافه بأسماء أعضاء الوفد، وأن رئيس الوفد كان مكلفا بعمل ما، وغادر بدون إذنه، وهو سبب الإلغاء؛ وقررت مواصلة الرحلة، كسائح وليس كـ (دلالة) فمثل هذه الرحلة يصعب أن تتكرر! وعرضت على الرفاق قراري، ولم يستجب منهم أحد سوى مندوب الجفرة، فواصلنا الرحلة معا.

وفي (جاكرتا) علمت أن من يصل إندونيسيا، ولا يرى (بالي) سوف يفقد نصف عمره، والواقع أنا لا أحب أن أفقد متعة يوم واحد فما بالك بنصف عمري، واقترحت على رفيقي أن نذهب إلى (بالي) فأجابني بصدق "وداني" أصيل: "(بالي)؟ .. يلا (بالي بالك)"!

كان المنتجع غاية في الهدوء، وكانت الأماسي رائعة لا تتوقف موسيقاها الإيقاعية العذبة، التي يجيدها الأهالي، فتظل تبتعد وتقترب من سمع حلقات المتسامرين من وقت الأصيل، حتى الفجر، فيما يفوح الياسمين، ويهدهد مد البحر رمال الشاطئ، وأقدام القوارير التي إن تحركت لا تترك أثرا فوق الرمال المبلولة الناعمة.

ومنذ وصولنا ظل يحلو لنا الجلوس عند البار الخيزران، الذي يخدم رواد الشاطئ، وسريعا ما أصبحت جلستنا بالقرب من مسئوله المتبسم على الدوام مكاننا المفضل؛ كان من تلك الشخصيات، التي تأسرك بحديثها الهادي، وهو يؤكد لنا أن "السعادة كالظل" تتبعك طالما تتحرك أمامها بهدوء ومرح، ولكنها تبتعد عنك كلما حاولت اللحاق بها. وأن الإيمان لا يبقى في قلبك بالدعاء والابتهال فقط، وإنما بفتح قلبك مخلصا لكل ما هو حقيقي وذي قيمة لسعادة وأمن الناس، وأن ما يقبع منها في قلبك هو ما يحببك في الحياة وجمالها. كان ينظر في عيني مباشرة ويقول لي: "افتح قلبك واجعله عامرا بالمحبة وسوف تتبعك السعادة على طول الطريق" ولقد رد عليه رفيق رحلتي ذات ليلة وفي الحال: "قلبه مفتوح جدا! وما توصى يتيما على البكاء".

لقد قضينا أسبوعا واحدا فقط ، ورحلنا من بعد أن أصبحت (بالي) لنا "حالة ذهنية"، عشتها فيما بعد في شاطئ النخلات، وبوفاخره.. وخشم الكبش، وسيدي بشر ومازال صديقي مفتاح يعيشها في جرجار امه!. أما رفيق تلك الرحلة، فقد ترك العمل الحكومي وأقام خيمة لبيع التمور والمصنوعات اليدوية. في مدحل ودان فلقد تمكنت منه الحالة الذهنية، التي تعلمها من (بالي)، ولم تعد تتبعه كظله فقط، وإنما عشعشت في قلبه، وظلت تنبض معه طوال حياته. كان يحدثني ساخرا عن مشروع كثبان الرمال التي قد توظف كمشروع للتزلج فوق الرمال:(sand ski). ولم يخطر لا على (بالي) ولا على باله أن مشروعه أصبح رياضة لها روادها! وأيضا حالة ذهنية حقيقية!