Atwasat

الفلسفة بين الاستقلال والاستغلال

عمر أبو القاسم الككلي الأحد 09 أغسطس 2020, 01:29 مساء
عمر أبو القاسم الككلي

الفلسفة، بطبيعتها، تنطلق من فرضيات مجردة وتتعامل مع ما هو نظري، حتى عندما عالجت، في مرحلتها الأولى، مسائل متعلقة بأصل الكون. أي أصل الطبيعة. هذا ما فعله الفلاسفة اليونانيون ما قبل سقراط، الذين يطلق عليهم "الطبيعون الأوائل" والذين انطلقوا، في محاولة إجابتهم عن مسألة أصل الكون، من مباديء أو فرضيات عامة (أو يمكن القول: تخمينات، وليس حتى حدوس)، افترقوا بها عن التفكير الأسطوري والديني السائد ببيئتهم في زمنهم.

فطاليس، أول الطبيعيين المعروفين، قال بأن الماء هو العنصر الذي تكون منه العالم. إذ عندما يجمد الماء يتكون التراب، أما إذا تبخر فيتكون الهواء. في حين قال انكسمانس أن الهواء هو العنصر الذي انبثق عنه الكون. ورأى هيراقليطس أن النار هي الأصل. أنبوذقليدس قال بالعناصر الأربعة (الماء والهواء والنار والتراب) التي تتفاعل مع بعضها وفق عاملي الحب والنفور. ونقل ديموقريطس الفكر في هذا المجال نقلة نوعية حين قرر أن أصل العالم هو الذرة، أي الجوهر الفرد والجزء الذي يتجزأ.

قصدنا مما أشرنا إليه أعلاه أن الفلسفة، حتى وهي تتناول المادة، تتناولها من خلال الفرضيات العقلية المجردة، وليس من خلال العياني المباشر، أو ليس من خلال العياني المباشر فقط. إنها تمضي إلى ماوراء الأشياء. فلم ير أحد الماء أو النار يتحولان إلى تراب، مثلا، ولم ير ديموقريطس الجوهر الفرد، أي الجزء الذي لا يتجزأ. الفلسفة، إذن، "خطاب القوة المخبرة عن الحقيقة النهائية التي وظيفتها التعالي فوق اتفاقات الزمان والمكان"*. وظلت "موسومة دائما بنزعة حيازة المعنى والحقيقة باسم العقل المستقل".

هذا الارتباط التاريخي للفلسفة بالمجرد، لا بالعيني، أدى بها إلى أن تعزل نفسها عن السياسة والشؤون العامة. فالفلسفة، حسب كانت، لا تمارس تأثيرا مباشرا على القانون أو الحكومة أو غيرها من فروع السلطة التنفيذية الأخرى. قناعة الفلسفة باجتناب تجاوز حدود كفاءتها جعلها في مأمن من قمع الدولة، وهو نفس مطلب الدولة "المعقول" من الفلسفة بالاكتفاء بالتأمل الخالص وعدم التدخل في الشؤون العملية. أي أنه "عقد ضمني" بين الفللسفة والدولة بعدم تدخل أحدهما في شؤون الآخر.

إلا أن جاك دريدا يرى أن هذا الادعاء بحفاظ الفلسفة على نقائها وعدم تخفيف نقاوتها بالاهتمامات العملية والسياسية هو مجرد خيال. وأصبح الأمر حاليا أكثر شفافية، حيث أن أي برنامج بحثي يمكن أن يكشف عن إمكانيات استخدامه تقنيا، وغالبا في المجال العسكري. في هذا الوضع يمكن للبحرية الأمريكية، وعلى نحو "عقلاني جدا" أن تمول عملا أكاديميا في السميولوجيا أو اللغويات، أو نظرية التفسير.

* في ما تبقى من المقال اعتمدنا على:
Christopher Norris, Derrida, Harvard University Press, Cambridge, Massachusetts, 1987