Atwasat

حتحات على ما فات

جمعة بوكليب الخميس 06 أغسطس 2020, 12:07 مساء
جمعة بوكليب

قبل الشروع في كتابة هذه السطور، ارتأيت استشارة معاجم اللغة العربية، المتوافرة على الإنترنت، للتأكد من عربية كلمة «حتحات»، ومعرفة معانيها المعجمية، ومدى توافقها مع الاستخدام في اللهجة المحلية.

المعاجم، في ردودها، اتفقت جميعها على أن الكلمة عربية. وفيما يخص المعنى وجدت لها عدة معان مشتقة من الجذر «حَتحت». وأقربها إلى الاستخدام، في اللهجة المحلية، المعنى الذي يؤكد أن حتحتة الشيء، تعني المبالغة في تقسيمه وتجزئته. الحتحات، في اللهجة العامية الليبية، تعني الفُتات.

المعنى الصريح والمتضمن في المثل، بالعنوان أعلاه -حسب فهمي- هو أن ما حدث أو يحدث لنا ليس سوى فتات صغير مقارنة بالذي مضى. ولكننا لا نعير ذلك اهتمامًا، لأننا في غصرة الحاضر، نصاب بالارتباك واختلال التوازن. وبالتالي، تفقد عيوننا وعقولنا قدراتها على الإبصار والتمييز. ومن الممكن أن يسري ذلك الفهم على أمور تصادفنا في حيواتنا الشخصية، وما قد يترتب عنها من تغييرات قد لا تكون لنا سهلة أو مرضية. لكن، لدى التروّي والتفكير، ربما يتبيّن لنا أن تلك التغييرات، رغم ما تضعه على كواهلنا من أثقال وأعباء، لا تعدو أن تكون حتحاتًا مقارنة بما مرّ بنا. ولو أردنا مطابقة ذلك على الواقع الليبي بعد فبراير 2011 وحتى يوم الناس هذا، على سبيل المثال، فهو يعني أن ما شاهدناه من أحداث، وما عايشناه من كوارث وحروب ومصائب، قد لا يعدو أن يكون مجرد «حتحات» لدى المقارنة بالذي عايشناه طيلة أربعة عقود زمنية من الحكم الاستبدادي العسكري.

وهذا، في نفس الوقت، ليس مبعث بهجة أو فرح، بل -في رأيي- ربما يكون مبعث أمل بقدرتنا، كبلاد وكشعب، على الانفكاك بأنفسنا من الأوضاع الحالية، وهي أوضاع رغم علمنا أنها موقتة، إلا أنها تجعلنا متورطين ومحبوسين في عنق زجاجة. مبعث أملي، يقوم وينهض على قدمين منبثقًا من حقيقة أن الأوضاع الحالية على شدّتها وعسرها ودمويتها لم تغلق كل المسارات أمام السلام. وأن الدلائل والمؤشرات تشير إلى أن المجتمع الدولي، رغم رعونته، خلال الأعوام الماضية، في التعامل مع المسألة الليبية، ما زال يؤكد رغبته وحرصه على وحدة الأراضي الليبية، واستتباب الاستقرار بها، ويسعى، وإن كان بشكل غير مرضٍ تمامًا لنا، لمحاولة جمع الفرقاء المحليين وداعميهم إقليميا وأوروبيا، على منضدة مفاوضات مستديرة.

وقد يستغرق ذلك وقتًا، بسبب الأوضاع الدولية وما يشوبها من توتر خلقه الوباء الفيروسي، وتداعياته على الاقتصاد العالمي وما أحدثه من أضرار، وما ولّده من مخاوف مستقبلية. أضف إلى ذلك، اقتراب موعد إجراء الانتخابات الرئاسية الأميركية، وتداعياتها على الداخل الأميركي والخارج، ومشاكل الاتحاد الأوروبي. ما نراه من تحركات على الساحة الدولية يشير إلى إمكانية فتح ثغرة في الجدار، والخروج من وضعيات المأزق الحالي. لكن هذا الأمل -الحلم البسيط والصغير- لم يكن ممكنًا وجوده أو الإمساك به زمن القذافي، حيث استحوذت وتوطدت عتمة كالحة، وحيث كان تأزم وضعنا لا يختلف عن وضع شعب وبلاد حشرا قسرًا في زجاجة مغلقة بإحكام، ويستحيل فتحها بما كان متوافرًا من فتحات محلية الصنع.

ربما يختار البعض منا الاختلاف مع تفسيري للمثل، ومع رؤيتي الشخصية للمنحى الذي تتجه نحوه الأوضاع عمومًا، أو مع تمسكي بخيط أمل، قد يعتبرونه أوهى من خيط عنكبوت. ومن حقهم الاختلاف، لكن من حقنا عليهم كذلك مطالبتهم بتقديم تفسير أو تفسيرات لأسباب اختلافهم، تقنعنا بحججهم وبراهينهم على أن ما حدث ويحدث بعد فبراير 2011 ليس حتحاتًا على ما فات كما نعتقد، وبالتالي، ربما يؤدي بالبلاد وبالعباد إلى ما لا نتمنى. وقد يرون أن الحتحات الصغير إذا تراكم وتكاثر مع مرور الوقت لا يبقى حتحاتًا دائمًا. وأن بمقدور الحتحات، بمرور الزمن، أن يتحول من تراكم كمي إلى تغيير نوعي، وهو في هذا السياق، ربما لا يختلف كثيرًا عن وضع قشة أخيرة، من المقدر لها أن تكون القشة التي ستقصم ظهر بعيرنا نصفين!

القادم من الأيام، على أي حال، ربما يحمل لنا في طيّاته، ضمن أشياء أخرى، ما ينقصنا من إجابات، نأمل بأن تكون في السياق الذي تهفو إليه أماني قلوبنا.