Atwasat

التنقيب عن «العلمانية» في أحافير التراث

سالم العوكلي الثلاثاء 04 أغسطس 2020, 02:52 مساء
سالم العوكلي

من المهم وجود مفردة في اللغة تعبر عن قيمة إنسانية أو معرفية حديثة، لكن علينا أن نفرق بين المفردة في استخدامها اللغوي محدود الدلالة وحين تكون اصطلاحًا مدرجًا ضمن علم المعرفة، مثل مفردة (أدب) الموجودة في التراث العربي بمعنى التهذيب وحسن الخٌلق، ثم تحولت فيما بعد إلى مصطلح فني يشمل الكتابة الشعرية والسردية (القصة والرواية)، والأمثلة كثيرة، حيث عملية تعريب المصطلحات قد تذهب إلى مفردة من التراث تعبر جيدًا عن معنى المصطلح الحديث.

ومن الممكن في الحالة التي أشار إليها الككلي في مقالته «العلمانية مصطلح عربي قديم» في ب«وابة الوسط» بتاريخ 26 يونيو 2020، فيما يخص ورود مصطلح «العلمانية» في تراث اللغة العربية، أن نجعل العلاقة عكسية، ففي بحث مجامع اللغة العربية عن مرادف مناسب لمصطلح secularism اللاتينية كمصطلح، استعانوا بهذه المفردة الطبيعية لترجمتها، شبيه بترجمة «الديمقراطية» إلى مفردة «الشورى»، التي تشكل خلفية معظم البرلمانات العربية أو بعض مؤسساتها التشريعية. وأنا شخصيًّا أميل إلى ترجمة secularism (دنيوة) الأقرب إلى المعنى، باعتبار جوهر هذه الأطروحة يكمن في انزياح إدارة شؤون الناس من السماء إلى الدنيا، ومن اللاهوت إلى الناسوت.

غير أنه يمكن التطرق للعلمانية ــ كمصطلح أو مفهوم ــ من جوانب أخرى تتعلق بالتأصيل الفكري لها وإرساء المنطلقات العقلية للفصل بين ما هو إيماني غيبي وبين ما هو تدبري دنيوي، خصوصًا في ما يتعلق بالأديان المقارنة، لأن مصطلح «العلمانية لم يظهر إلى السطح إلا من خلال الجدل الديني والفلسفي».

يكمن الاختلاف بين المسيحية والإسلام في مدى التمايز في المنطلقات بين نبييهما وما تبعها من تراث مكتوب، وطبيعة الصلة التي تشكلت عبرهما بين السماء والأرض، وخطابيهما. فعيسى كما تصوره السردية الدينية نتاج معجزة خارقة، لم يأتِ للدنيا عن طريق الجنس ولم يمارس الجنس، وفي صميم العقيدة المسيحية هو ابن الله أو أحد ثالوث مقدس ارتبطت فيه روح القدس (السماء) بجسد مريم (الأرض)، لذلك فالصلة بين السماء والأرض (الآخرة والدنيا) ليست مجرد مجاز في العقيدة المسيحية، لكنها علاقة بنيوية راسخة، وبالتالي كان سعي منظري العلمانية شاقًّا في الغرب لفصل هذا التركيب البنيوي الذي بنيت عليه العقيدة، ومع الوقت تغلغل الأباطرة والحكام في هذه الصلة ليكونوا أنصاف آلهة مفوضين من الرب لإدارة أمور المؤمنين، وهذا ما رسخ سيطرة الكنيسة ورجال الدين المسيحيين قُوّامًا على السلطة السياسية لفترات طويلة، حتى أسهمت الابتكارات العلمية والصدمات المعرفية التي تعرض لها العقل الجمعي في انحسار دور الكنيسة تدريجيًّا وتحفيز نظريات وأفكار فصل الدين عن الدولة الذي وجد فيما بعد أرضًا اجتماعية خصبة لكي ينمو فيها .

في حالة الإسلام فإن نبيه لم يكن وليد معجزة خارقة ولا استخدم المعجزات في إقناع مواليه، لكنه بدأ صراعه مع المحيط عبر جماليات اللغة والبيان، والتنقيحات المتتالية لتناقضات العقائد السابقة عبر جدله مع التراث الديني السابق. وإنكاره للثالوث أو بنوة عيس لله يأتي في سياق دحض الصلة البيولوجية المباشرة بين الله والإنسان (بين السماء والأرض) ، وركزت الكثير من الوقائع والمقولات السنية والنصوص القرآنية على البشرية التامة للنبي محمد، فهو كما يقول «إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد»، وفي النص القرآني «مَا محمد إلا رسول قد خلَت من قَبْلِهِ الرسلُ أَفإن مات أو قتل انقَلبتْم عَلَى أَعقابكم». بينما مبدأ موت النبي عيسى مرفوض في العقيدة المسيحية، وعوده الحتمي جزء من الإيمان المسيحي. وفي الوقت الذي طرح فيه المسيح رؤية مثالية أساسها التضحية بالنفس من أجل المغفرة لكل الأتباع، فإن محمدًا أدار رسالته بكل ما تقتضيه الواقعية والإدارة الدنيوية لأي مشروع إصلاحي، وتعرض لكثير من الإهانات والسخرية والتّهم كأي ثوري منتفض على أوضاعه الراهنة، واستخدم كل التكتيكات العسكرية والسياسية في الحفاظ على هذه الدعوى (المشروع) من تحالفات المعادين لها، من غزوات ومعارك وإصدار وثائق تعايش دنيوي كما صحيفة المدينة «بين المهاجرين والأنصار واليهود» التي تضمن تعايش الأديان والمكونات الاجتماعية في ظلها، ويعتبرها المؤرخون أول وثيقة دستورية علمانية مكتوبة، إذا ما اعتبرنا أن أهم أهداف العلمانية هي التعايش بين الأديان والمكونات المختلفة وفق مبدأ دستوري يضمن حقوق الأقليات من المذاهب والأعراق المختلفة. وهذا الاختلاف الجوهري في طبيعة وسيرة النبيين ما يجعل بعض المنافحين ضد العلمانية في الإسلام يبنون حججهم انطلاقًا منه، غير أن العلمانية كتوجه مستقبلي متغير أكثر تعقيدًا، ولا تقف عند هذه الحجج الماضوية التي أصبحت ذريعة لمصادرة المستقبل.


خرج المسيح بمشروعه التسامحي في جوهره، ودفع حياته ثمنًا لهذا المشروع على ألواح الصليب، لكن تأويلات اللاهوت التنويري تذهب إلى أنه عبر هذه البنوة نزل الأتباع بالله على الأرض، وحين بدأت الفلسفة الأوروبية جدالها الطويل مع اللاهوت المسيحي كان سؤال العلاقة بين الأرض والسماء، والغيب والواقع، والعقل والنقل، أصيلًا في كل هذا الجدل الذي حاول نيتشه حسمه عبر مقولته الشهيرة، ويؤصل تيري إيجلتون لهذه الإزاحة بقوله: «والواقع أن نيتشه لم يلاحظ أن مشروع إزاحة الله عن مركزه حققته المسيحية من قبل. فقد أطيح بصورة الأب كمبدأ ميتافيزيقي جليل عبر إنسانية المسيح».

وبالمقابل ثار جدل كبير من قبل النزعات العقلانية التي لمعت في فترات محدودة من تاريخ الثقافة العربية الإسلامية، عبر المعتزلة أو إخوان الصفا أو ابن رشد فيما بعد، لكنها يبست في قلب الصحراء بمفهومها الجغرافي والمجازي.

من جانب آخر، هل من الممكن التأصيل لمصطلح العلمانية (الدنيوة) في الثقافة العربية (وأنا هنا استخدم الثقافة العربية بدل الإسلامية وفق اللغة التي تحركت فيها وبها) عبر أفكار ابن رشد المبكرة، التي استفاض فيها متأثرًا بما وصله من تفكرات فلاطون وأرسطو، حيال الروح والعقل الفعال، أو نظرية «وحدة الفكر» واقترح فيها بوجود عقل مادي واحد فقط. ولجأ إلى استخدام مفهوم جديد سماه «الفكر» (باللاتينية cogitatio)، وهو عملية تتحقق بداخل أمخاخ البشر تشتمل لا على السعي إلى المعرفة الكلية، بل على «التدبر الفعال في الأشياء المعينة التي يصادفها الإنسان». ولاحقًا صارت تلك النظرية محل جدل حينما دخلت أول مرة أوروبا المسيحية؛ ففي العام 1229، كتب توما الأكويني نقدًا مفصلًا للنظرية بعنوان «عن وحدة العقل: دعوى ضد الرشديين». ورغم أن ابن رشد لم ترد في كتاباته، حسب دارسين مختصين، أي اصطلاح يمكن أن يكون مرادفًا للعلمانية، إلا أن أفكاره المتجاوزة في ذلك الوقت كانت ترسي قاعدة معرفية للفصل بين الفكر البشري، أو العقل المادي، وبين الميتافيزيقا. ويذهب الكثير من الدارسين إلى أن المهد الأول للعلمانية في أوروبا كان في الجدل الذي دار بين مَن يسمون أنفسهم الرشديين، أو دارسي فكر ابن رشد في أوربا، بينما ترد في ويكيبيديا (النسخة الإنجليزية) معلومة في ترجمة أبي الوليد بن رشد الحفيد، تصف ابن رشد بأنه الأب المؤسس للعلمانية الغربية.

حين انتمى الفيلسوف الماركسي اللاديني روجيه إلى الإسلام لقي في البداية احتفالًا وترحيبًا كبيرًا، لكنه سرعان ما أثار امتعاض الدوائر الإسلامية حين أشار إلى أن الإسلام لا يتعارض مع كنه الماركسية، وفي كتابه «الإسلام دين المستقبل» أفاض كثيرًا في الطبيعة العلمانية للإسلام ومراحل التعايش في ظله بين كل الأديان والفلسفات. وسببت آراؤه صدمة لمَن احتفوا به لأنهم من الأساس ضد التفكر والتفكير في دين كرسوه طقوسيًّا ضمن حقبة معينة يمنع بعدها الاجتهاد، بعكس احتفائهم بالملاكم محمد علي كلاي الذي اعتنق الإسلام لأنه لم يتفكر ولم يجتهد، وكان يصرع خصومه من غير المسلمين فوق الحلبة.