Atwasat

جعلتني جدتي ساردا!

أحمد الفيتوري الثلاثاء 21 يوليو 2020, 03:23 صباحا
أحمد الفيتوري

نظرية المثل الأفلاطونية، المحاكاة الأرسطية، العود الأبدي لنيتشه، فالبئر الأولى عند فرويد، وقبل الجنة التي خرجنا منها في الأديان، كلها تعيد إلى قبلٍ ما، فالأحلام وعلاقتها بالذاكرة. الكل يشير إلى أن الفن، حتى وهو يلج المستقبل، يتذكر، لكن حتى الآن، ليس ثمة توكيد قطعي، عن ماهية الفن وعن مصادره، لكن القطعي، أن الفنان المبدع، لا يُنظر ولا ينطلق من نظرية ما، فالمبدع فطري بمعني ما، حتى ولو شرب كل الفلسفات، أكل كل العلوم، واشتهى ما تبقي.

من الناحية الشخصية السيروية، عقلي ناقد، ولم أستهدف الكتابة الفنية، كنت ولعا بالمبدع العالم، فالعلوم البحتة أيضا، منطلقها ولع ذاتي، كما أنشتاين وابن الهيثم، حتى سيبويه، فواضع العروض الشعرية الخليل. لكن كنت أيضا ابن جدتي، منطلقا من أن الحياة سرد، وأن كل جملة ننطقها أو ندونها، سرد بشكل ما، وأن الشعر، كامن فينا بالضرورة، فالعالم غامض، الكون معتم رغم نجومه، والحياة سر.

أشير إلى أن الذاكرة، كما الكتب، والأحداث، والقصص، والتاريخ، كل يشكل السارد ويوشم الذاكرة، وأن نمتح من البئر الأولى التجربة، هذا كما الضرورة، وحتى عند الكتابة المستقبلية كالخيال العلمي. لكن المهم أن تكون خيوط العرائس في يد اللاعب، والكتابة كلعبة لها قوانينها الخاصة، فكل لعبة مفردة، رغم كل النظريات الجاهزة، ولذا في الأخير لكل نص ذاكرة خاصة يمتح منها، فذاكرة ينحتها.

كتبتُ ذات مرة جملة: (تتكئ جدتي وتحكي لي)، فكانت رواية (سريب)، وفي أخرى، فكرت أن الأب شخصية مظلومة، فكانت رواية (ألف داحس وليلة غبراء)، وفي أخرى، التقيت فتاة وحيدة، وكنت مريضا، فكانت (بيض النساء)، وأحببت امرأة، فأردت أن أكتب لها رسائل، فكانت شعرا كديوان (قصيدة حب متأبية). هل تتذكر غوته و(الآم فارتر)؟، وهل خطر بالبال (وادي عبقر)؟، وقول أن، كل ما ليس معتادا، خارجا عن المألوف، جنون، إذاً كل مبدع مجنون ليلي، رغما على أنف (بارت) أو بفضله.

الكتابة السردية، حياتنا، مسرودنا الحي، أي الحلم والنوم والصوفي... وهلم، والنص يستدعي هذا من الحياة، فيكون أكثر واقعية من الواقع. ولذا احتج ماركيز على حشره في واقعية سحرية، فوكد أن سردياته واقعية، وأن السحر كامن في الواقع، وليس مضافا إليه. ولا أتصور أن كتابة سردية، لديها مبرر لإزاحة ما في الحياة، إذا ما استدعى النص ذلك، وعند السارد من لزوم ما يلزم، استخدام التقنية اللازمة للنص، فالتفاصيل التي تحوك قماشة النص، تتيح أحيانا اللعب، حتى يبدو ما في السياق خارج السياق، فتفصيلة ما قد تجعل النص مفارقا.

الرواية ليست فن السيرة الذاتية، لكن النبع للسرد السيرة الذاتية، المخرج السينمائي فليني يقول: لو أخرجت فلما عن الحشرات لكان سيرة ذاتية. والسارد هو راوٍ عليم، لو تصورنا أنه يكتب عن شخصية تاريخية، فستكون الشخصية في جانبها الذاتي، مكونة من سيرة الكاتب. ولهذا ثمة علاقة جدلية بين السيرة والرواية، وهذا يعني أن العلاقة مركبة ومعقدة، بين الذات والموضوع عند السرد. الرواي في الرواية أعتبره ابني، وأنا خلقت الشخصيات في الرواية، وبالتالي تتمظهر الذات، لكن حين أكتب عن السجن، في رواية "ألف داحس وليلة غبراء" مثلا، لا أكتب سيرتي ولكن أستفيد من تجربتي لا أكثر.

الرواية ليست مطالبة بشيء، فهي التي تحدد مساراتها، بذاتها ونسيجها والقماشة التي ينسج منها، ولا أعتبر أن رواية "ألف داحس وليلة غبراء" وثيقة، فلست مؤرخا، في الحقيقة التاريخ أداة من أدوات الرواية، خاصة عندما تتحدث عن حادثة تاريخية أو تجربة واقعية، فالجانب التاريخي يمنح الرواية فرصة لأن توظفه في العملية البنائية الروائية، وهو ليس أساساً في العملية الروائية، ولكن مثله مثل الفلسفة والشعر وغيرها من الأشياء التي يوظفها الروائي في روايته.

ألا يبدو أن كل سارد وريث جدته، كل سارد ينسج من الذاكرة، ما يصير ذاكرة؟