Atwasat

خريطة طريق لبناء ليبيا الحديثة «حول الانتقال الديمقراطي: فلسفة لدولة ليبية حديثة» (1)

محمد عبد العزيز الفقهي الجمعة 17 يوليو 2020, 12:01 صباحا
محمد عبد العزيز الفقهي

مقدمة

هذه مقالة تأسيسية وتأصيلية للدولة الليبية الحديثة نشوءا، وأزمة، ورؤية لوظيفتها ورسالتها باعتبار تموضعها العبقري في خارطة العالم وذاكرتها التاريخية، أستهلها من الحراب الدائرة رحاها قرابة العقد وأسباب هذه الحرب. ومفهوم «الدولة الحديثة» يشمل الانتقال الديمقراطي والديمقراطية، لأن الدولة الحديثة ديمقراطية بالضرورة، والدولة غير الديمقراطية بالضرورة ليست حديثة وإن وصلت إلى القمر. فالديمقراطية هي تتمة التحديث، وتمام التنمية، وإن تعثرت في ليبيا للأسباب التي سنأتي عليها.

* أصول النزاع
من أسباب التعثر الديمقراطي، والحرب الأهلية الدائرة، التي فتحت الباب على مصراعيه للتدخل الأجنبي، مسائل داخلية موضوعية:
1. الشرخ الاجتماعي الرأسي المتكون منذ التدخل الأجنبي 2011، والذي لم يعالج بتغليب مبدأ المصالحة، وإنما كان مبدأ المغالبة هو سيد الموقف. وانقسام تيار فبراير إلى يسار ويمين. اليسار الذي يمثله غالب المواطنين يسعى إلى الشرعية القانونية، ودولة قانون بجيش وشرطة، وتغليب مبدأ المصالحة. أما تيار اليمين الذي يمثله غالب تكتل المحاربين في المنطقة الغربية، ومن ورائهم أصحاب المصالح الخاصة أو المناطقية، فيسعون لتحكيم الشرعية الثورية، وتكوين دولة أمراء حرب فيها الحظوة لما يسمى بالثوار، ومبنية على مبدأ المغالبة. وعليه النزاع بين التيارين هو الذي أفشل مخرجات انتخابات 2012، و2014، وأدخلنا في حرب أهلية. والسبب الرئيس للانقسام هو الاختلاف حول تداول السلطة وإدارة السيادة، سواء بين سبتمبر وفبراير، أو فبراير اليمين والشمال، والذي سيبين لاحقا.

2. إدارة المرحلة الانتقالية بمجالس تشريعية وعدم انتخاب سلطة تنفيذية مباشرة من الناس.
هذان السببان الرئيسان للحرب الأهلية في ليبيا. وعليه لا جرم، في استمرار حالة الانقسام في مؤسسات الدولة، والتشظي المجتمعي. فتفسير الأزمة بأنها ثورة مضادة سطحي جدا وغير علمي. وذلكم لعدم وجود قيادة وبرنامج لفبراير من الأصل، فهي انتفاضة لأربعين يوما، ثم أضحت حربا أهلية بعد تدخل الناتو. وبعد مقتل معمر القذافي بدأ الشوط الثاني للحرب الأهلية بين الفبرايريين أنفسهم، والتي سعرها التيار اليميني، بخطاب الكراهية وعدم قبول الآخر، واختراع مصطلح علماني واستقطاب الليبيين، وطرح مشروع قانون العزل غير العادل، الذي لا يستقيم في سياق الحالة الليبية، لأنها لم تكن ثورة مركزية وإنما لا مركزية واستمالة المحاربين أو ما يسمى الثوار وإغداق الأموال عليهم والاستقواء بهم على الخصوم.

ومصطلح الثائر غير دقيق لأنه انعدم بمقتل معمر القذافي، وأصبح قانونا، يعرف بمسلح أو محارب. فالحكم بالشرعية الثورية لا يستقيم في الحالة الليبية وسيؤدي لحرب طويلة، وتقسيم البلد. فالثورات من حيث نوعية التغيير إما سياسية أو اجتماعية. السياسية هي التي تغير مبدأ الحكم فقط دون البنية الاجتماعية كما في حالة الثورة الإنجليزية 1688. أما الثورة الاجتماعية فهي التي تغير البنية الاجتماعية، إضافة لمبدأ الحكم أحيانا، كما في حالة الثورات الروسية، والصينية، ومن قبلهما الثورة الفرنسية.

والثورات باعتبار طريقة التغيير فهي إما أتوكراطية، أو غير أتوكراطية. الثورات الأتوكراطية هي التي لها قيادة وبرنامج واضح، والتي لا تسقط النظام فقط وإنما تحل محله، كما في حالة الثورات الفرنسية، والصينية، والروسية، والكوبية، والإنجليزية الأولى 1649. هذا النوع من الثورات بالإشارة لجمهور المؤرخين والعلماء، لا يؤول إلى ديمقراطية، وذلك نتيجة لطريقة التغيير، أيضا لتحكيمها الشرعية الثورية من عزل الخصوم، وخطاب الكراهية. فهكذا ثورات تؤسس دولة حزب واحد، لا دولة ديمقراطية مؤمنة بالتعددية.

أما الثورات غير الأتوكراطية فغالبا ما تؤدي لديمقراطية لعدم وجود قيادة لها ولا برنامج، وعدم وجود طليعة واحدة لها، وإنما عدة قوى. عليه الخلاف بين القوى، وعدم مقدرة فصيل على السيطرة، يؤدي إلى ديمقراطية، ضد رغبة بعضهم أحيانا، كما حدث في ثورات 1848، أو ما يسمى بالربيع الأوروبي. فالذي مهد للديمقراطية في أوروبا هذه الثورات، وليست الثورة الفرنسية. فأهمية الثورة الفرنسية تاريخيا، هي تأسيسها للدولة الوطنية، ومبدأ المواطنة والحريات الدينية. ولم تؤسس ديمقراطية، لأن ثوارها غير ديمقراطيين. ومن ثم سياق الربيع العربي هو ثورات سياسية غير أتوكراطية لعدم وجود برنامج لها ولا قيادة مركزية. فهي ثورات قامت لا لتحل بدل النظام السابق، وإنما إصلاحه.

وليت شعري، لو اتفق اليمين واليسار في الحالة الليبية مبكرا، لما استمرت الحرب الأهلية، ولتم الانتقال الديمقراطي بسلاسة. وفي هذا السياق الإغراق في مسألة التدخل الأجنبي والمؤامرة غير علمي. فطبيعي عندما تكون الأمة منقسمة على نفسها، كما في حالة الأمة الليبية، ينشأ فراغ سياسي يفتح مصاريع الوطن للتدخل الأجنبي. فالتدخل الأجنبي ليس أصلا لعدم الاستقرار، وإنما أصل لإطالة عدم الاستقرار، والفرق جلي لا ريب.

فبناء على ما ذكر، وبعد تحرير محل النزاع، الحاصل في ليبيا هو حرب أهلية وليس ثورة مضادة، نظرا لانقسام الليبيين أولا بين سبتمبر التي ترى التوريث في ذرية معمر القذافي، لفيف من آل سبتمبر على الأقل، وفبراير التي ضد التوريث. ثم انقسام فبراير بين اليمين، الذي يرى احتكار السلطة أو المحاصصة بين القبائل والمدن الثائرة، ومحاصصة القوات المسلحة بين المحاربين وجعلهم فوق الدولة، ويسار فبراير الذي لا يرى المحاصصة ولا الاحتكار.

وهنا تأتي هزلية وعدم دقة مصطلح الدولة المدنية. وفي السياق الليبي يطرح هذا المصطلح كمضاد للدولة العسكرية، لكن لا يعني بالضرورة ديمقراطية، وإنما دولة غير عسكرية لا تمارس التوريث، بيد أنها تمارس الاحتكار والمحاصصة ضد تيار سبتمبر ويسار فبراير معا، وكل من يعارضهم إما «علماني»، «ثورة مضادة» أو «أزلام». فتيار يمين فبراير غير ديمقراطي ويمارس الشعبوية وسياسة الهوية، وهيمنته على الدولة الليبية لن تؤول إلى ديمقراطية، وإنما أوليغاركية «حكم أصحاب السلاح والمال السياسي»، ليس فيها من الديمقراطية سوى الانتخابات، كما هو الحال في العراق ولبنان.