Atwasat

محطات عابرة، وواحدة أخيرة

جمعة بوكليب الخميس 16 يوليو 2020, 01:17 صباحا
جمعة بوكليب

الصمتُ في السجن، صديقٌ مُجرّبٌ يعتمدُ عليه، ولا يخذلُ صاحبه. المشكلة الوحيدة والصغيرة أنّه، على عكس بقية الأصدقاء باختلافهم، يحرصُ على ألا يفارقك حتى بعد خروجك من السجن، لأنّه، ببساطة، من كثرة الالتصاق بك وشدّته، ينتقل، من دون أن تشعر، للعيش تحت جلدك، ويصيرُ جزءًا من كينونتك، وتصبحَ سجينه. السجن، في هذا السياق، ليس مجازًا.

حين تلتوي بك مساراتُ الدنيا، وتخرجُ بك، فجأة، عما انتويت واخترت من طرق، وتنعطفُ بك، في فترة ما، حرجة وحاسمة، من عمرك، وفي غفلة منك، نحو ابتلاء محنة السجن، تجدُ نفسكَ، للمرّة الأولى في حياتك، وجهًا لوجه، مع تجربة مختلفة بكل معنى الكلمة، سوف تترك ندوبها عميقة في عقلك وذاكرتك وقلبك ما حييت، وتسرقُ من روحك فيضها إلى الأبد.

في بداية انتقالك بين محطات السجن العديدة، لن تشعرَ بالوحدة، ولن تفتقدَ الأهلَ والأحبة والأصدقاءَ، لأنهم، وببساطة، حين تُدفع قسرًا للعيش وراء أسوار وجدران وأبواب حديدية وأقفال، سوف يكونون معك، محمولين ومشمولين برعاية ذاكرتك وأفضالها، تحسُّ بأنك لم تغادرهم سوى جسديًّا. تتذكر كل نبرات الأصوات التي عرفتها وصادقتها وأحببتها. تتذكر أدق التفاصيل في ملامح الوجوه. تسريحات الشعر، تموّج الضحكات، والهرج والمرج والنكات والزعل، بل حتى نكهة رائحة السجائر. لذلك، تشعر بأنك، رغم الأسوار والعزل، لستَ وحيدًا، وجدانيًّا.

لدى انتقالك إلى محطة أخرى متقدمة، خلال تلك الرحلة الطويلة من العبث واللامعقول، تتلاشى، تدريجيًّا، تلك الأصوات، صوتًا صوتًا، من ذاكرتك، وتذوب في طيات الزمن، حتى تغيب كليةً مع تفاصيل ملامح الوجوه، وتصير نسيًا منسيًّا. وتبدأ، واقعيًّا، تتقدم مقتربًا من محطة أخرى، لا تسمع فيها إلا صوتك، وتصير سجين ذاتك. ما يحدث هو أنك، بمرور الوقت، تنزلق تلقائيًّا في هاوية نفق منولوج طويل بلا نهاية. البوابات المفتوحة التي كانت، فيما مضى، تصلك بالحياة خارج أسوار السجن، وبزخم العالم الخارجي تُغلق. وتُفتح أمامك بوابة مختلفة، تفضي دروبها إلى مسارب أعماقك. أشياء كثيرة تقولها لنفسك، وفي نفس الوقت تسمع من نفسك أشياء وحكايات وأسئلة أكثر، بمنتهى الصراحة والوضوح. وتحسُّ وكأن جدرانًا «كونكريتية» تنصب، فجأة، بينك وبين من يحيطون بك في وحشة ذلك الفضاء الضيّق، والعفن.

في محطة متأخرة، تسقط تلك المنولوجات في جُبّ النسيان، وتختفي من دون مقدمات، هكذا. ومن دون أن تشعر، تجد نفسك فاقدًا القدرة على الحديث مع نفسك، أو بالأحرى، تكتشف أن نفسك قد فاض بها الكيل من ملل صحبتك، ومن الحديث معك، ولم يعد فيها ما يكفي من صبر للاستماع إليك، أو محاورتك، لذلك تقرر فجأة تركك، وتفرّ بعيدًا. عندها، تجد نفسك في الطريق إلى محطة أخرى، وأخيرة. في تلك المحطة، يتبيّن لك أنه غير مسموح لك سوى بسماع أصوات الصمت. وتكتشف أن للصمت أصواتًا عديدة، بعضها يأسرك، وبعضها يسلبك مما حولك، ويستحوذ على كل كيانك. في تلك المحطة الأخيرة، يصيرُ الصمت صديقًا لا يمكنك مفارقته، ولا يتخلى عنك. تشاكيه فينصتُ باهتمام لا تجده عند غيره ممن عرفت من أصدقاء. فهو، على عكسهم، لا يحتدّ في وجهك مخاصمًا ومجادلًا، لكنّه، وهنا مربط الفرس، لن يغادرك مطلقًا، وعليك تحمّل تبعات العيش برفقته، ودفع ما يتوجب من رسوم لقاء ما قدمه لك من خدمات، إذ لا شيء يأتيك مجانًا في السجن، خاصة الصمت. وليس على المسجون، لدى مغادرته السجن، سوى الإذعان، والقبول بسداد ذلك الثمن راضيًا، وبالتقسيط طويل الأجل، وعلى الآخرين، الذين سيضعهم القدر في طريقك، تحمّل تبعات احتمال صديقك غير المرئي، وأن يتعودوا، تدريجيا، على حقيقة وجوده معك، أو بالأخرى داخلك، وتحديدًا كنمل تحت جلدك.