Atwasat

أعْجَميٌّ فالعبْ به

جمعة بوكليب الخميس 09 يوليو 2020, 01:40 صباحا
جمعة بوكليب

وصلتُها ليلًا، ولم تكن نامت بعد. رحلةُ طائرة الخطوط الجوية التركية القادمة من لندن تأخرتْ كثيرًا لدى إقلاعها من مطار هيثرو. وحين حطّتْ بي، أخيرًا، في مطارها، كان الوقتُ قد تجاوز منتصف الليل بساعتين. لم تكن هي جهتي المقصودة، كانت فقط مجرد محطة أخرى للتوقف في طريق تقود إلى مدينة أخرى، تعيش، منذ سنين، في اضطراب ناجم عن إصابتها بما يشبه حالة انفصام تاريخي، أفقدتها توازنها، وأضاعت بوصلتها، فاشتبكت عليها الجهات والاتجاهات. ولم أكن أنا، كسابق عهدي، أتوقُ لتوطيد أواصر علاقات جديدة بها، أو بغيرها، لأن الزمن لم يُبقِ لي من العمر والصبر ما يكفي للتورط في علاقات من أي نوع. وربما، لذلك السبب، حافظتْ دقاتُ قلبي، لدى وصولي إليها، على هدوء إيقاع نبضاتها، ولم أحسْ، شخصيًّا، برعشة الفرح باللقاء، التي تذوقتها سابقًا في زياراتي لغيرها. ما إن انتهيت من إجراءات الدخول الرسمية، حتى سارعتُ بلملمة نفسي، وجرّ حقيبتي ومغادرة المطار. استأجرت سيارة أجرة أخذتني إلى فندق في منطقة قريبة. كانت تلك المرّة الأولى التي ألتقي فيها، عن غير قصد ولا تدبر، بإسطنبول: مدينة، كانت حتى لحظة وصولي إليها، آنذاك، خارج نطاق شبكة موجات راداري.

لم يكن لقاؤنا متميّزًا ولا استثنائيًّا، بل أشبه ما يكون بلقاء غريبين أرهقهما الوقتُ، التقيا على غير قصد ولا موعد ولا نيّة في التعارف. كان كلانا متعبًا، وفي حاجة إلى راحة من نوع مختلف. ما أنشده أنا قد لا تريده هي ولا تستطيع توفيره، وما تريده هي لا أعرفه أنا ولا أريد. وفي غرفة صغيرة وأنيقة ونظيفة بفندق حديث، دسست تعب بدني ونهاري الطويل تحت لحاف، على فراش، ونمتُ، من شدة التعب، كقطعة خشب.

استيقظت مبكرًا على صوت مؤذن في جامع قريب، تؤكد تموجات نبرات صوته الفجرية على أن الصلاة خيرٌ من النوم. ظننتني في طرابلس. ونسيت كليةً أنني قضيت ليلتي نائمًا في مدينة تربطني بها، رغمًا عنّي وعنها، علاقة روحية، قديمة. وأن صوت المؤذن، فجرًا، ليس مجرد صوت بشري يزعج نائمين متعبين، أرهقهم سفر، ومحرّضًا على الاستيقاظ والتأهب لأداء شعائر وطقوس بإمكانها الانتظار قليلًا، بل هو نداء مختلف، بأصداء عميقة وغائرة، ما زالت تتردد في حنايا الأرواح، ونبضات القلوب، عابرة للتاريخ، وللجغرافيا، وللزمن. المسافات البعيدة بين طرابلس وإسطنبول انمحت فجأة، ووجدتني، مستيقظًا، بعينين مفتوحتين محدقتين، عبر زجاج نافذة، في غبش فجر نهار إسطنبولي، وفي ريقي أستطعم مذاق حلوة حلقوم، وحلوة شامية، وكنافة، وبقلاوة، وعسله وزلابيه، وفي نفس الوقت، أتذكر بألم وحزن وغضب، ما تركته عجرفة وغطرسة سلاطينها من آلام، وما خلفته سياط جنودها من جروح على ظهري لم تندمل بعد، رغم تقادم العهد.

إسطنبول مدينة مزدحمة بالبشر. شدة الازدحام، في بعض مناطقها وأحيائها، تشعرك بأنها تكاد تسقط غرقًا في مياه بحر البسفور، لكنها مدينةٌ تفيض حيوية. حين تتطلع إلى علو مآذن مساجدها وشدة نحافتها، تحسُّ وكأن المدينة تريد أن تتخلص من أعباء الحياة الأرضية، وتفرّ إلى خلاصها في فلوات سموات بعيدة. هذا احتمال ضعيف، ومن الممكن أن تُشعرك بأنها، رغمًا عن عمق جذورها في التراب والتاريخ والجغرافيا، تحرص على أن تظل متعالية كما كان بابها العالي في زمن مضى وانقضى. هذا احتمال آخر، ربما أقرب إلى الواقع. وهناك احتمالات أخرى كثيرة، تفسّر تلك العلاقة بين الأرضي والسماوي، الواقعي والمفارق، في مدينة تقف بقدمين متباعدتين وراسختين لتجمع قارتين مختلفتين، ولتمزج تواريخ وأديانا عديدة، ولتحلم باستعادة أمجاد في عالم معلق مصيره على قرن ثور أميركي!

ما يلفت انتباه الزائر إليها هو تجاور الماضي والحاضر معماريًّا، جنبًا لجنب، من دون نشاز، وفي تناسق يشعره أن طوافه في أحيائها وشوارعها شبيه بزيارة متحف ضخم حيث الانتقال من حيّ إلى حيّ، ومن منطقة إلى أخرى، يشبه الانتقال في متحف من صالات مخصصة لحقبة تاريخية معيّنة، إلى صالات أخرى مخصصة لغيرها. الفرق الوحيد هو أن إسطنبول مدينةُ بقلب ينبض حياة، وليس للمتاحف قلوب.

بعضهم يكتبها إسطنبول، وآخرون يفضلونها بالتاء بدل الطاء. والبعض الآخر يحرص على أن يكتبها إستانبول أو إسطانبول، وكلها صحيحة. ولا تؤثر في المعنى، أو كما يقول أجدادنا النحاة واللغويون: «أعجميٌّ فالعبْ به». وما يهمّ، حقًّا، هو أن الزائر لتلك المدينة لن يتعب كثيرًا في العثور على طريق تقود إلى بوابة تفضي إلى قلبها. وحين يصل، أخيرًا، سوف يكتشف أن القلب الإستنبولي مزدحمة حناياه بأسئلة قلقة سياسيًّا، ناجمة عن انبثاق طموحات متأخرة، بحلم استعادة ماضٍ ولّى، ومن المؤكد ألا تجد لها تحققًا، في عالم يسوده نظام دولي لم يعد من السهل تعريفه، وليس من الصعب معرفة ما يحيق به من تهديدات، وما قد يجلبه على الدنيا من مخاطر.