Atwasat

معزوفة باشاغا قرب الحرائق

سالم العوكلي الثلاثاء 30 يونيو 2020, 07:08 مساء
سالم العوكلي

في مقالته «ليس بالحروب وحدها نقضي على الإرهاب»، التي اطلعت عليها في موقع «بوابة الوسط» قبل أن تنشر في النسخة الورقية، يتحدث فتحي باشاغا بضمير المتكلم (نحن) معبراً عن حكومة الوفاق التي يرأسها مجلس رئاسي جهوي أقصى أعضاءه بشكل أو آخر من الشرق والجنوب وما عاد يمثل وفاقاً. مثلما حدث في مجلس قيادة ثورة الفاتح، الذي بدأ بـ12 عضواً ممثلين لليبيا موقتاً وانتهى بزعيم أوحد معه 4 أعضاء من جهة واحدة لا يهشون ولا ينشون.

ضمن ما كتبه فتحي باشاغا: «لم ندعو للحرب ولم نرتكب هذا الخطأ الفادح، وعلى المخطئ أن يكون شجاعاً ويتحمل مسؤوليته أمام الليبيين، ويبادر نحو الحلول السلمية التي تنبذ التطرف والإرهاب وترفض العقلية الانقلابية المتخلفة التي لم تحكم بلداً في العالم إلا وجعلته أدنى المراتب على جميع الأصعدة».. فمن أين إذاً جاءت أول حرب أهلية سميت بحرب «فجر ليبيا»، التي انقسمت إلى معركتين في إعلان رسمي: «معركة الشروق» التي بعثت رتلاً تجاه الشرق و«معركة قسورة»، التي هاجمت الزنتان وورشفانة وهجرت عشرات الألوف وأحرقت ودمرت مئات البيوت والممتلكات، والجميع يعرف والـ«ويكيبيديا» يذكر أنك أحد مهندسي هذه الحرب ومشارك فيها بعد أن قاطعت مجلس النواب الذي اختاره الليبيون. وهي الحرب التي سببت استقطاباً جهوياً حاداً، وأوقفت المسار السياسي وأحالت التنافس من داخل صناديق الاقتراع إلى الصراع في الجبهات والمحاور العسكرية.

وفيما يخص «العقلية الانقلابية المتخلفة»، فأنا أيضاً أرفضها، ومازلت محتجاً على كل بيانات التفويض أو المبايعة المتخلفة، أو إلغاء البرلمان كمؤسسة وحيدة منتخبة من الليبيين، كما رفضت تلك العقلية الانقلابية على المسار السياسي المدني المتمثلة في حرب «فجر ليبيا» التي أُعلنت بمجرد خسارة الإسلام السياسي للانتخابات وخسارته مقر البرلمان تحت تحكم الجماعات المسلحة التابعة له في بنغازي آنذاك وانتقاله إلى طبرق. وكأن طبرق ليست مدينة ليبية وليست أهم لنا من برلين وباليرمو.

وحين يقول: «كان هدفنا الدائم ضمان وحدة ليبيا وإنهاء حالة الانقسام السياسي الذي ترتب عليه انقسام مؤسساتي على جميع مستويات الدولة».. ماذا نقول عن حكومتك التي أحالت مبلغ  ملايين دينار إلى مهرج وسفيه «لن ألوث مقالتي باسمه» في قناة «ليبيا الأحرار» في تركيا من أجل أن يصف نصف سكان ليبيا وسكان إقليم كامل بالقرامطة والبدو والهمج والحثالة إلى آخر الأوصاف التي لا يليق تكرارها.

وفي قناة «ليبيا تي في» أظهر الصحفي الاستقصائي عبدالستار حتيتة وثائق هذه التحويلات التي تمت على دفعات، ومصادرها على الشاشة، وموجودة في الإنترنت.

أنا من عشاق طرابلس أحب المدن فوق الأرض إلى قلبي ومعظم أصدقائي وصديقاتي منها، وهنا لا أتكلم من منطلق جغرافي ولكن من منطلق مؤسسي ووقائع قريبة حدثت على الأرض لا يمكن نكرانها. بنغازي كانت عاصمة ثورة فبراير وأدارتها كما ينبغي ومن خلال المجلس الانتقالي، رغم كل ما يقال عنه، إلا أنه حقق أهدافه ووعوده بالكامل، فأسقط النظام كهدف مبدئي، وسلم السلطة لأول هيئة منتخبة «المؤتمر الوطني» في الوقت المحدد، وانسحب من المشهد تماماً، وانتقل الزخم من بنغازي إلى طرابلس. طرابلس المدينة التي من المفترض ـ لو أعطيت الفرصة لكفاءاتها ــ أن تتحمل عبء المرحلة الانتقالية بجدارة وتضع ليبيا على المسار السياسي الديمقراطي كما في الإعلان الدستوري. لكن ما حصل أن خرج «المؤتمر الوطني» عن مهامه المكلف بها، وبدل هذه المهام كانت أولوياته إقصائية وعدوانية، حيث أصدر قانون العزل السياسي المعيب الذي أراد من خلاله جماعة الأخوان بعد أن خسروا الانتخابات أن يقصوا كل الكفاءات المدنية والعسكرية التي من الممكن أن تعكر صفو برامجهم في تمكين جماعتهم وحلفائهم من مفاصل الدولة، والذي حصل أن أصدر هذا الجسم الممثل لليبيين قراراً رقم 7 لغزو مدينة ليبية أخرى ومن أجل تصفية حسابات عمرها أكثر من قرن، والذي حصل أن إرهابياً خارجاً من السجن وعائداً من حروب أفغانستان لم يفز حزبه بأي مقعد في المؤتمر الوطني، شكل ــ عبر الابتزاز والمال السياسي وبدعم دولة إقليمية ــ كتلة داخل المؤتمر الوطني سماها (الوفاء لدماء الشهداء) هي التي وضعت ليبيا أمام هذا المصير بعد أن وضعت البنية التحتية للعنف والحروب الأهلية ومكنت 7 من الإرهابيين السابقين العائدين من حروب أفغانستان في مفاصل الدولة الرئيسية كوكلاء وزارات سيادية. وسبق أن نشرت أسماءهم وسيرهم والمناصب التي تقلدوها.

لقد وضع المجلس الانتقالي ليبيا على بوابة المسار السياسي المدني كما ينص عنه الإعلان الدستوري، لكن المؤتمر الوطني وحكوماته وضعوا ليبيا على بوابة الحروب الأهلية وانتشار الإرهاب في جميع أجزائها. هذا ما حدث وهذا هو الفرق، أما أهم ما قام به مجلس النواب ـ مع كل عيوبه - إلغاء قانون العزل السياسي وإصدار قانون العفو العام، وهذا فارق آخر جوهري، حيث عكس ما تقول - أخي فتحي ــ ارتبطت قرارات وقوانين مجلس النواب بمبدأ التسامح والعفو، بينما ارتبطت قرارات وقوانين المؤتمر الوطني بروح الانتقام وتصفية الحساب التي فرضتها 200 تابوت أمام مقره.

من حقك أن تقول إن كل هذا حدث قبل أن تكون وزيراً في حكومة الوفاق، أو على الأقل قبل أن يتقلد المجلس الرئاسي السلطة ويكلف حكومة سماها حكومة «الوفاق»، ولكن الذي حصل أن السراج جاء إلى طبرق، المدينة التي مكث فيها فترة كعضو من أعضاء مجلس النواب بعد أن وقعت الأطراف بأسمائها الأولى على الاتفاق السياسي، وكان مستعجلاً جداً، وفي جلسة سريعة تمخضت عن رفض 89 عضواً من 104 أعضاء من مجلس النواب للحكومة التي قدمها السراج، وطالبوا بإعادة تشكيل حكومة مصغرة مكونة من 17 حقيبة وزارية بدلاً عن 32. لكن السراج ذهب لم يعد إلى طبرق بعدها أبداً، وكأن الغاية هي الحصول على الترخيص والاعتراف الدولي وليس تحقيق وفاق وطني. وما الذي كان يحصل لو أن السراج جعل الحوار والصراع يستمر تحت قبة البرلمان، مهما طالت المدة، للوصول إلى حكومة وفاق حقيقية يعتمدها مجلس النواب المنتخب، ويضمن الاتفاق السياسي في الإعلان الدستوري ليكون دستورياً وملزماً لكل الليبيين؟، وبالتالي كان لابد أن يوصلنا هذا المجلس الجهوي وغير الدستوري إلى ما وصلنا إليه بعد أن استبدل العمل تحت قبة البرلمان بالعمل تحت سلطة الميليشيات التي صرحت أنت نفسك بأنها تسيطر على كل شيء في طرابلس.

لقد حولتم طرابلس الحاضرة الليبية الرائدة ومخزن الكفاءات المهمة إلى حارات صراع بين ميليشيات تحت إمرة أسماء ما أنزل الله بها من سلطان، وحولتم مدينة مصراتة التي من المفترض أن تكون عاصمة الاقتصاد الليبي بما تتمتع به من خبرات وحيوية تؤهلها لأن تقود التنمية والتطور في ليبيا كلها، حولتموها إلى ثكنة عسكرية ومعقل لجماعة مصنفة في دول عديدة بكونها إرهابية. والأمر هنا ما عاد يتعلق بمكافحة الإرهاب الذي يعرف وسائله حتى طالب الابتدائي، ولكنه أصبح يتعلق بمؤسسات احتضان الإرهاب الرسمية ودعمه وإعطائه الشرعية وجعله يتحكم في مقدرات الدولة كلها، والدفاع عنه سياسياً في المحافل الدولية، وهذا ما تفعله حكومة السراج الآن، وعشرات التقارير الدولية تشير إلى طبيعة الجماعات المهيمنة على «الرئاسي» وعلى طرابلس.

رجاء أخي فتحي، لا تطرح نفسك كحمامة سلام وتكتب بأسلوب رومانسي ومنمق كما كان نيرون يعزف موسيقاه قرب حرائق روما التي أشعلها.