Atwasat

البني آدم والإنسان...

عبد السلام الزغيبي السبت 20 يونيو 2020, 09:11 صباحا
عبد السلام الزغيبي

ما صادفته من أحداث في حياتي دعاني إلى التفكير في أخلاق الناس، وكيف يمكن أن تخدعك مظاهرهم مهما ظننت أنك قد بلغت من الخبرة بالحياة، بما يكفي لمعرفتهم، وبدأت أتساءل عن المعنى الحقيقي لكلمة إنسان ومن يستحق أن نطلق عليه هذا الوصف ومن لا يستحقه.

ربما تتفق جميع الكائنات الحية، وليس الإنسان وحده، في عدة خصائص، مثل التوالد والطعام والمشي والتنفس والوقوف «البعض على اثنين والبعض على أربع» وهذا كله لا يجعل الكائن الحي إنسانا، وربما يقول أحدهم إن الفارق بينهما هو التفكير، لكن هذه الخاصية ليست كافية للحكم لتمييز الإنسان عن الحيوان، ربما هذا الشخص المتعلم المفكر لا يحمل في قلبه ذرة من العطف والحنان وحسن معاملة الناس، وهو الشيء الوحيد في نظري الذي يجعله جديرا بوضعه في خانة الإنسان، فإذا فقد هذه الصفات لا يهمني إذا كان متعلما أم جاهلا غنيا أو فقيرا، فهو آدمي، لا يرقى لدرجة الإنسان المتكامل النزيه.

هذا الإنسان المتكامل النزيه، هو من بحث عنه الفيلسوف اليوناني ديوينيس الكلبي «نحو 421 - 323 ق م». يُعتبر من أبرز ممثلي المدرسة الكلبيّة الأوائل. ولد في سينوب بتركيا، ودرس في أثينا على انتيستنيس. قال صاحب الملل والنحل: «كان حكيما فاضلا متقشفا لا يقتني شيئا ولا يأوى إلى منزل». عاصر الإسكندر المقدوني، خلال وجوده في أثينا وكان له موقف بسيط وعميق في نفس الوقت، اذ شاهد الإسكندر«ديوينيس» وهو قابع في جوف برميل متهالك، فاقترب منه، وقال له: «إنني أستطيع مساعدتك أيها الرجل، فاطلب ما تريده، فقال له ديوينيس: أريد شيئاً واحداً منك، ابتعد فأنت تحجب عني أشعة الشمس». ويقال إن القائد المقدوني قال يوما «لو لم أكن الإسكندر لوددت أن أكون ديوينيس».

كان ديوينيس يؤمن بأن الفضيلة هي سر الحياة وسر السعادة، وأنها أيضاً المعرفة، وقد سبق وقال بهذا التوجه سقراط، والذي لا يعلمه ديوجين أن آراءه وفلسفته، باتت تياراً من تيارات الفلسفة حتى اليوم يسمى الكلبية، وهي ترى أن السعادة هي المقدرة على التخلي عن كل شيء، وأن السعادة تتحقق عبر تمكننا من الاستغناء والاكتفاء. وتميز ديوجين عن أتباع المذهب الفلسفي الكلبي بأن هو من قام بتطبيقه عمليا، وهو يحاول من خلال هذا أن يثبت للناس أن الفضيلة واقع وليست آراء أو نظريات فقط.
بطبيعة الحال كان فقيراً فلم يكن يملك شيئاً، ولكنه تميز بقوة ضبط النفس والتقشف والزهد، وأيضاً بمقاومته لشدة برودة الشتاء أو لشدة حرارة الصيف، وفي اللحظة نفسها كان يرفض التبذير والإسراف والترف.

اتخد «ديوينيس» نمط حياة شكل صدمة للمجتمع والنخبة الأثينية. الرجل اتخذ من برميل خشبي مسكنا له، قضى بداخله أكثر من نصف عمره، الذي امتد إلى تسعة عقود. كان يجوب أزقة وشوارع أثينا حافي القدمين، مرتديا معطفا قطنيا أسود اللون، مستندا إلى عصاه، حاملا في يده قنديلا متقدا، حينما سأله أحدهم لما توقد القنديل ونور الشمس يلف المكان؟ كان جوابه: أنا أبحث عن الإنسان.. أرى رجالا كثرا.. لكن لم أصادف بعد إنسانا!
اليوم نحن جميعا أكثر إلحاحا للخروج لحمل مصباح ديوينيس الذي لم ينطفئ منذ تلك الحقبة الغابرة، منذ نحو أربعمئة عام قبل الميلاد وحتى اليوم، ذلك المصباح المضيء الذي كان يجول به في الأرجاء، يبحث عن الوفاء والاحترام والأمانة والصدق والإخلاص، وجميع القيم النبيلة التي فقدناها منذ زمن، وفقدنا معها الإنسان النزيه، وهو النواة الأولى المكونة للعالم الفسيح الذي نعيش فيه، وبدونه لا معنى لوجودنا.