Atwasat

صورة قديمة وسؤال

جمعة بوكليب الخميس 18 يونيو 2020, 05:18 مساء
جمعة بوكليب

من بين كل صوري القديمة واحدة تستهويني، وأحتفظ لها في قلبي بمنزلة خاصة. ربما كان عمري، وقتذاك، لا يتجاوز عامين أو ثلاثة على الأكثر. ومن الأرجح، أن المناسبة كانت عيد فطر، لأني، في تلك الصورة القديمة، أبدو واقفاً، عاقداً يدي الطريتين وراء ظهري، ومرتدياً ملابس جديدة، ناظراً نحو عدسة آلة التصوير وحاملها بريبة وخشية، تبدوان واضحتين في نظرة عيني: هل تلك الريبة ناجمة عن كوني أقف وجهاً لوجه، للمرة الأولى، أمام عدسة آلة تصوير ومصور، أم أنها بسبب المكان الذي لا أعرفه، ووجدتني فيه غريباً؟

الصورة التقطت خلف مبنى الولاية -وزارة الداخلية فيما بعد- بميدان الشهداء، وما يميزها هوالحجاب الجلدي الذي يطوق رقبتي الصغيرة بوضوح، ويتدلى مختفياً تحت القميص.

الذين لم يعايشوا تلك الفترة الزمنية البعيدة نسبيا، ربما تلفت انتباههم تفاصيل أخرى، لكن الذين ولدوا في ثناياها، وعاشوا في بؤسها، فإني أجزم أن الحجاب، ولا شيء غيره، أول ما تقع عليه عيونهم، وأول ما يلفت انتباههم. وأن مجرد رؤيته متدلياً من رقبتي كفيل باستقطاب ظلال عديدة، بمشاعر مختلفة، تحفز ذاكراتهم المسنة الآن، ومستدعية نحوها ذكريات متنوعة، وربما ابتسامات إلى شفاه بعضهم، محملة بمزيج من حنين وحزن.

مهمة الحجاب حماية حامله. وحامله، في الصورة، طفل، حسب ما ترويه أمه، ولد عليلاً، ولم يكن أمامها سوى التنقل به من فقيه إلى فقيه، على أمل أن تحظى، من أحدهم، برقية تقيه خطر موت يخطفه ويثكل قلبها. طرابلس، آنذاك، كانت مدينة صغيرة، وفقيرة «تسرح نعاجي وترقد دجاجي». تتدلى، هي الأخرى، من رقبتها حجابات وأحرزة لتقيها شرور العاديات. ولم يكن في العالم، آنذاك، بعد القضاء على النازية والفاشية، من شرور سوى ثلاثة: الفقر والجهل والمرض. وكنت أنا طفلاً صغيراً، لم يعرف الفروق بعد بين طير قصب، والحمراية. ولم يعرف بعد السر وراء ذهاب النساء إلى البحر، في مجموعات صغيرة، في ساعات الفجر الأولى خلسة، ليس للعوم أو الاغتسال. ولم يتعلم بعد فك أبجدية الحروف، تحت تهديد عصا فقيه متجهم ملامح الوجه، وتحت سقف كتاب مليء بأطفال مثله، ينبحون مرددين خلف أحدهم، بأعلى الأصوات: أليف لا شي عليه. ويتمنون بشوق أن يسرع الوقت، وينتهي دوام النباح، ليعودوا جرياً إلى بيوتهم، ليمارسوا حقوقهم في اللعب، والعراك، ومطاردة قطط لا تقل شراسة عنهم.

يمكن النظر إلى الصورة من زاوية أخرى، ذات علاقة بما كان يحيط بي من مبان ذات صلة وطيدة بتاريخ المدينة. أولها، على يساري في الصورة، كان مبنى الولاية الكبير الذي شيده الإيطاليون خلال الحقبة الاستعمارية، وصار بعد الاستقلال مقراً لوالي طرابلس، وما يحيط به من مبان وأسواق. على يميني في الصورة وخلفي، أيضاً، يبدو جزءاً من سور طرابلس القديم، ببوابة مفتوحة تقود عبر درجات أسمنتية إلى سوق قديم متميز بجمال تصميم أقواسه، وبزخارف جدرانه، وحوضه الخزفي، أزرق اللون، في الوسط، وهو سوق النقاشين. وأمامي مباشرة، ولا تبدو في الصورة، ينتصب مبنى «قلالية مريوطي» في باب الحرية، حيث تصنع السروج والغرابيل. وهي نفس «القلالية» التي تطوعت، أخيراً، الفنانة النحاتة والرسامة هاديا قانه بإعادة تركيب زجاج قبتها الملون.

المعنى الحقيقي، في رأيي الشخصي، في تلك الصورة، ليس وجود الطفل مستريب النظرة والعليل، بملابسه الجديدة، بل تلك الخلفية التاريخية، وما تحمله في طياتها من تفاصيل متشعبة لحوادث سياسية شهدتها البلاد، في ذلك المكان، في أحقاب مختلفة من تاريخها.

سور القلعة ما زال، ثابتاً رغم تقادم الزمن، في مكانه، لكن مبنى وزارة الداخلية خارج الخدمة، بعد تخريبه وإحراقه في انتفاضة فبراير. ورغم الخراب والإهمال الذي يتعرض له حاليا، ما زال يقف شامخاً، في مركز المدينة، شاهداً على ماض بعيد انقضى، عاشته طرابلس ابتداءً من الفاشية الإيطالية، التي تركت وراءها معماراً ملفتاً بجماله وحسن تصميمه وروعته، في تناقض واضح مع أيديولوجيتها وممارساتها الوحشية، مروراً بالنظام الملكي لمدة عقدين، ثم النظام العسكري لأربعة عقود، حتى الحاضر الغارق في الفوضى. النظامان -الملكي والعسكري- لم يتركا وراءهما إرثاً معمارياً يذكر، بل إن المدينة خلال العهد العسكري تمددت بشكل سرطاني عشوائي أفقدها ما كانت عليه من جمال، وحتى صارت قذى للعين، ومكباً كبيراً للقذارة. وما ينطبق على طرابلس يطال غيرها من المدن الليبية، وكأن الجمال ترف لا يليق بالأنظمة التي توصف بالوطنية، حتى الغنية منها. أعتقد أن هذه الحالة ليست حكراً على بلادنا، بل تشمل غيرها من الدول التي كانت تحت قبضة الاستعمار. وشخصياً، لا أجد تفسيراً لذلك، سوى قصور مريع في عقلية القوى التي حكمت تلك البلدان، في علاقتها بالواقع إجمالاً، وبالفن خصوصاً، وتبلد مشاعرها فنياً وجمالياً وثقافياً. وهذا قد يفسر عداء تلك القوى للمثقفين والكتاب والفنانين، واضطهادهم، ومحاربتهم بكل الوسائل.