Atwasat

عبد السلام شهاب: كان الفعل الناقص الكامل الدلالة

أحمد الفيتوري الثلاثاء 16 يونيو 2020, 10:24 صباحا
أحمد الفيتوري

فوجئت بالصديق القاص عبد السلام شهاب، الغائب الحاضر، عند الرحيل الأبدي منذ أيام، بأن غيابه الأبدي أجل حضوره الخفي، انبثق عند الرحيل، شجرة سامقة عميقة الجذور، البذرة التي دَفنُها دافع انبثاقها، ما كان الرحيل قطرة الماء. فكثيرون فاجأتهم الذاكرة: بأن عبد السلام شهاب، الفعل الناقص الكامل الدلالة: كاتب القصة القصيرة طويلة التيلة، كتب القليل وما كتب نشر، ألتقوه أقل، فقد سجن الكثير من السنوات، في سجون النظام الديكتاتور، بورتا بنيتو وبوسليم بطرابلس الغرب، وعاش في محبسٍ اختاره، بعد أن دفعه العسف إليه، انزوى حتى عن القريب. لكن بهذا لم يبتعد عن الآخرين، من لم يعد يلتقيهم، وإن التقاهم في لقاء عابر لا يعبر عن الذاكرة، البصمة الدامغة والمفعمة بتناقضاتها، وكما مع الآخرين فعل مع الكتابة، ما هجرها وهجرته، وهذا لأن الكتابة عسيرة عليه، وعسير عليه أن يكتب، من ينشد الكامل.

فوجئت في بيت الصديق الفنان التشكيلي محمد نجيب برفيق للسهرة، جار لا أعرفه: عبد السلام شهاب، كان هذا أوائل السبعينيات، وقد قرأت قصة فلسفية له بحريدة الجهاد، تشوبها رؤية وجودية "الدخول إلى بوابة الخروج"، تعالج مسألة عجز المثقف فالإنسان تجاه الوجود العقيم على ما أذكر، ثم نشر قصة ثانية في المنحى "المهزومون"، وفي تلك الحال لفتني شيء جانبي الاسم، ما جعل البعض يظنه شاميا، والطريف أن شهاب هو اسم والده. لما خرجنا معا من بيت صديقنا آخر الليل كنا صديقين. وكعادتي في فوضاي وصخبي أدخلته في ثلة أصدقائي، بعد جهد مع طبع يميل للعزلة، لكن دمَه وروحهُ الساخرة كسرا قشرة اللوز الصلدة، ثم أذاق الأصدقاء حليب صدقه.

فوجئت أيضا أن هذا الرجل، الطويل والعريض جدا، برشاقته، كما بمرحه ما لا ينبيء عنه محياه الصارم، لقد بدأ كشقيق للروح رغم تناقضاته، ومع محمد نجيب بدأنا نتردد معا على (مصيف جليانه) ظهرا، ثم أمر عصرا على فرقتي (المسرح الحديث) لنلتقي مساء، ما نقضيه في عبث صخب من حوار لا يكل في الثقافة والآداب والفنون، وكانت مسألة الحداثة والثورة والتغيير المشترك بيننا، فنحن شباب السبعينيات المفعم بالشغل والتفكير، وكانت قصة شهاب الجديدة ستكون كما القنبلة من حيث أسلوب الكتابة واللغة والرؤية، كنت أردد حينها اصطلاح لغة التفجير، فكانت القصة مميزة في تجربته الأولى وفي كتابة القصة القصيرة حينها، من هذا لاقت احتفاء من الأصدقاء والقراء، أضافة إلى جرأتها السياسية، الناقدة لادعاءات النظام في ذلك الزمان، حول القومية والوحدة العربية، وبهذا كان صاحب رؤية فنية وفكرية حداثوية فاعلة. وفي هذه اللحظة الاستثنائية جائني ذات مرة إلي البيت، فنزل من سيارته ممسكا بأوراق، رافعا يده الممسكة بالورق هاتفا مغتبطا: نحن جيل الكتابات الشابة، كانت قصته التالية.

هذا الجسور الحبور بغتة ينكفيء، كما عنده الكتابة صعبة المراس، كذا النفس عنده لا شكيمة لها، فكما يندفع يرتد، لم يكن عبد السلام شهاب يرضيه ما يفعل، فكتب كشاعر ملهم تأتيه القصة كقصيدة تنهمر، وتذهب عنه جافلة، هذه المكابدة كما جعلت من قصصه القصيرة مميزة، كتب القليل منها، فجعلته معاناته هذه يجفل من فرسه الحرون. لكن ذلك جعله متأججا مكابدا، ففي الفترة التي أشرفت فيها على الصفحة الثقافية لجريدة (الفجر الجديد): آفاق ثقافية- كتابات شابة، كان الدينمو حيث يقرأ ويُبدي الرأي، ويطبع مادة الصفحة على الآلة الكاتبة، وذلك في شكل منظم ومدقق، وأثناء هذا يكتب ويشارك في ندواتنا التي كنا نعقدها ببيتي، وهذا على أساس أن (آفاق ثقافية) قصته، ما للأسف كانت قصيرة وأكملت عامها الأول والأخير بصعوبة النفس، حيث القذافي وضع نظريته في كتاب أخضر تطبيقه جعل الفجر الجديد صحيفة أخبار ليس إلا، لكن ذهبت وأخذت معي روح (آفاق ثقافية كتابات شابة)، إلى "الأسبوع الثقافي" الجريدة الأسبوعية الثقافية العربية، ما أصبح يرأس أيضا تحريرها عبد الرحمن شلقم من ترك الفجر الجديد.

رافقتهُ عمرا، عرفتهُ في ظرف صعب على البلاد، حتى أن مشروع الكتابة الشابة، ما بدأ في الفجر الجديد، انتهى في الأسبوع الثقافي في العام الثاني، بزجنا في السجن بتهمة تكوين حزب مناهض، لسلطة الفاتح من سبتمبر العظيم سلطة الشعب!!. كنا أثني عشر الأغلبية فيهم من شعراء وكتاب قصة ومنهم عبدالسلام شهاب. فكانت محنة العسف، أن حكم علينا ظلما وعدوانا بالسجن المؤبد، وبعد أن قضينا سنوات عشر أفرج عنا، بعد معاناة سجن بشع وشائن. وفي السجن كتب بعض القصص، وقد قمنا بتأسيس جريدة من ورق السجائر، ولما كنا في قبو سميناها (القبوية)، لكن شهاب أصدر جريدته المضادة، من غطاء سريره الأبيض ما كتب عليه بالفحم.

هذا المفرد بصيغة الجمع، عبد السلام شهاب: كان الفعل الناقص الكامل الدلالة.