Atwasat

ولِهٌ بمكتبته

أحمد الفيتوري الأربعاء 10 يونيو 2020, 12:41 صباحا
أحمد الفيتوري

زمن الطفولة، أنشأت مكتبتي الأولى من الصور، قبل أن أطرق باب المدرسة، حيث كنت أول من محا أميته في أسرتي الكبيرة. ومكتبة صوري كانت من أثر شرائي أو حصولي كهدية، اللبان الحلو «المستكة»، المرفقة بصورة لفنان أو فنانة، من المشهورين مطلع الستينات في السينما العربية والأميركية، وقد أغنيتُها بالصور من اللعب، والمقامرة بالصور، ثم المقايضة، فالاستعارة، ما لا أُرجع، وحتى السرقة من الأطفال الآخرين.

أليست الأحرفُ صورا؟، لذا ما إن فككت الخط في الجامع والمدرسة، حتى طفقت في جمع مجلات الأطفال ثم كتبهم، وبعد أن كانت مكتبة الصور من الكرتون، أظن كرتون حليب «كارنيشن» لقوته، فإن مكتبة المجلات أنشأتها من صندوق خشب التفاح اللبناني، ما كان أبي يبيعه في دكانه، وعندئذ في العطلة المدرسية، جعلني أبي صبي النجار جاره وصديقه، فأجريت تعديلات صبيانية في الصندوق.

للكتاب بيت، أو غرفة كما لي، ولم أقبل البتة أن يسوح دون مأوى كالعقل الطائش، لذا شرعت في تجليد كتيباتي ومجلاتي، من الورق الملون والمقوى، ووضعتها في المكتبة، وباعتبار أني الابن البكر لأبي، فقد جعلني أنام مفردا في «المربوعة» غرفة المضافة، لي سرير وبجانبه مكتبتي ما كانت أيضا بمثابة «الكوميدينو»، وبعد فترة وإثر نجاح مميز لي في المدرسة، اشترى لي طاولة كبيرة «فورمايكا» ما تعد غالية الثمن، لكن لم يجلب كرسيا! فجعلني أستخدم المكتبة لمآرب عدة كعصى موسى.
زمن «الكورونا» كانت المكتبة فسحة الحجر، ففي مارس 2020، مكمما في بيتي بمنفاي الاختياري/ القاهرة، استقبلت النجار من جاء يحمل المكتبة، التي أنجزها لي، ما اخترت نوع خشبها ولونه البني المشجر، والأصفر للأبواب السفلية المغلقة، وما حددتُ مساحاتها: 2م الإرتفاع في 3م العرض، لكن كل متر منفصل. ثم، على عادة العاجل المغتبط، أخذت في ترتيب كتبي مصنفة، وكنت كلما ضاقت دنيايا الضيقة، اتخذت المكتبة فضاء، كما جعلت ممر البيت الممشى. وفي هذا الزمن بزغ المنشأ، ما أمسى عادة، أن يكون قلب مكتبتي المجلات، ديدن المثقف المتابع للمستجد، المجلات الفكرية المتخصصة والثقافية العامة والعلمية وحتى المصورة، عندي أن كل مجلة مجلد لكتب عدة: قصص قصيرة، وسيرة، وفصول روايات، مقالات ودراسات وبحوث، ستضمها دفة كتاب.
زمن الكوليرا، ستينات القرن العشرين، فترة الصبا أصاب البلاد هلع الوباء، في زحام دُفعنا إلى المستوصفات والمستشفيات، للحجامة ضد الكوليرا، ما علامته مدموغة على ذراعي حتى يوم الساعة. وفي هذه اللحظة، أهداني أسطوانة «غنيت مكة»، قصيدة سعيد عقل، ولحن الرحابنة وغناء فيروز، عاملٌ لبناني، زبون أبي في الدكان، وصديق سهرات ما بعد الدكان، وقد تكفل أبي بشراء «بي كاب» مشغل أسطوانات، ما لم يكن بعد قد شاهده الكثير من سكان الحي. هذا بدء منشأ مكتبتي الصوتية، فالمرئية مع أشرطة السينما 8ملم، وقد أهديت، من خالي أثر نجاحي في الشهادة الابتدائية، آلة عرض سينمائية قديمة، مع شريط قصير لشارلي شابلن، ما كنيته عندنا «ويشي»، ومع اختراع الفيديو لي قصة أخرى...
زمن السجن، حيث تنتفي الفردية، إنه الحجر القسري القامع للشخصية، ففي حجرة كما علبة السردين، كُدس أكثر من عشرة رجال، ولمدة قاربت السنوات العشر، حيث لم يكن بالإمكان الحصول على الكتاب، لكن السجن في الأخير حياة، ما مكونها الجذري في جينات البشر صُنع المستحيل:

مرة سُمح لنا بزيارة استثنائية دون مبرر واضح، كانت الزائرتان والدتي زميلي السجن والصديقين خالد الترجمان، والمرحوم إدريس المسماري، جلبتا معهما، شيئا من الأكل وملابس داخلية، دون أن تتمكنا من رؤية ابنيهما، ومن الأكل ما كان ملفوفا بورق جرائد أجنبية، بعد تمحيص وجمع الورق، تبين أنه عدد مجلة التايم الأميركية الأخير، ولم تكن تدخل المجلات البلاد، لكن أحد أبناء الأسر كان في الخارج فهربه، ويبدو أنه أراد مفاجأتنا، «الخانب يغلب العساس» كما يقول المثل الليبي، أي اللص يغلب الحارس، هكذا أعدنا للمجلة جسدها، فباتت مكتبتنا تحتوي على آخر عدد صدر من التايم. وزد على ذلك كانت لنا مجلة نصدرها من ورق السجائر، وتُصدر المجلة كتبا في مجالات عدة، من مؤلفاتنا الفردية والجماعية والمترجمة، ما كان مثلا، عن اللغة الإيطالية التي ترجم عنها المرحوم عبدالحميد البشتي، والكتب سُمح بها لسجين إيطالي زارته سفارته.

مرة هبت على إدارة السجن تعليمات، بتخفيف العسف والضغط حتى لا ننفجر ونتمرد، فقد حدث أن قمنا بإضراب عن الطعام، استمر على ما أذكر لعشرة أيام، ونتج عن ذلك أن جُلبت لنا كتب من إدارة التعبئة في القوات المسلحة، فقد كنا سجناء مدنيين في سجن عسكري، والطريف أن من هذه الكتب: المعذبون في الأرض لفرانز فانون، سيكلوجية الإنسان المقهور لمصطفى حجازي. وعليه صنع زميلنا رمضان المقصبي، مكتبة من علب السجائر المغلف بقماش ملون لسترة بالية. وكنت مع زميل آخر كما أمين لهذه المكتبة، ما نتج عنه عند الإفراج عنا، أن أخذتُ وإدريس المسماري بعض محتوياتها خاصة المؤلفة، والقليل منها باق حتى الساعة، ككتاب لجورج لوكاتش عند خالد الترجمان، وكتاب من تأليفي هو في مكتبتي ببيتي، وكذا غيرها في مكتبة المرحوم المسماري.
زمن الإفراج، مكتبات وليس مكتبة واحدة، وتلك حكاية أخرى، قد نسردها بعد أن يطلق سراحنا العقيد كورونا: «القايد ما يريد سلام بالأيد»!.