Atwasat

"تهادوا تحابوا"

محمد عقيلة العمامي الإثنين 08 يونيو 2020, 09:35 صباحا
محمد عقيلة العمامي

كتاب غربيون كثيرون قدمهم لنا الكاتب صادق النيهوم. لنا نحن جيل ستينيات القرن الماضي؛ "إيريك فروم" فيلسوف كبير ذاع صيته في تلك الفترة. أذكر من أفكاره أنه يقول، ما معناه: "أن التناغم مع النفس يتخلق عندما يقبل عقلك فكرة تأملها واقتنع تماما بها، فتصبح من أساسيات سلوك المرء".

وفي الحب له رأي خلاصته: "أن الحب أكبر بكثير من مفهومنا له، فنحن نسفه الحب عندما نؤسسه عندما نربطه بما نفضل فقط، فنحن نسرف كثيرا في استعمال الكلمة لدرجة أننا نقلل من قيمتها وفاعليتها عندما نحصرها فيما نعشقه من خارج أنفسنا، نقلل من قيمته عندما نربطه بما نريد". يقول أن الحب لا يعني ما تريد أن تمتلكه أو تناله، وإنما ما تمنحه بغبطة وسرور للآخرين. إنه حق مطلق لك في تفردك بإنسانيتك!

ويذهب أكثر من ذلك، فهو ممن أشاروا إلى أن الأمراض العقلية هو حرمانها من الحب والرعاية والاهتمام، سواء فيما تناله من الآخر، أو فيما تعطيه له!

إن حبك لإنسان آخر يختلف تماما عن حبك لتفاحة، إذ تنتهي علاقتك بها بمجرد أن تستهلكها، أما حبك لإنسان آخر يتضمن اهتمامك به، وإحساسك بالمسئولية عن الهناء الذي يحتاجه، عن سعادته وراحته. فالعلاقة الحانية الدافئة ما بين الجنسين، بل هي أساس المحبة بينهما، ولكن لا ينبغي أن تصل مرحلة تملّك أحدهما للأخر، فالحب يبلغ ذروته عند الوصول إلى احترام كرامة الآخر ومحافظتك على تفرده بشخصيته. وهي لا تحتاج إلَّا لأشياء بسيطة كحديث عفوي حول فنجان شاي مثلا، أو وجبة خفيفة يغمرها التعاطف واحترام الآخر والاهتمام بقناعاته وأرائه.

ومسألة الحب، أو بمعني أدق المحبة، اهتم بها الكثير من علماء النفس، فرفعوا علاقة الحب الحسية إلى علاقة عقلية، لدرجة أنهم جعلوا منها العلاج الفعال للكثير من انحرافات النفس البشرية، مؤكدين أن الحب عملية "منح" وليس عملية "أخذ " وجعلوها وصفات فعالة وأساليب علاج فعالة للكثير من الأمراض العقلية.

ويذكر موضوع يتحدث عن العلاج النفسي بالحب أن صبيا كان نموذجا لحالة ميؤوس منها، لدرجة أن أسرته اعتبرته غير مرغوب فيه، لأنه شب كحيوان مؤذ، فشل أن يرتبط بأية علاقة سوية مع أي إنسان آخر. وشخصت حالته، بأنها (شيزوفرانيا) نقلته من العالم الحقيقي إلى عالم خاص به، جعله يؤذي كل من يقترب منه. عالجه المستشفى بمعاملته بود ومحبة وفرحة. ظل كل من يقترب منه خادما، كان أم ممرضا أو طبيبا يعامله كشخص محبوب ومرغوب فيه، وفيما كان لا يغادر غرفته أصبح يغادرها من دون طلب من أحد، ويخرج إلى الحديقة ويقترب من الناس الذين ظلوا يعاملونه بمحبة، ولا يعطونه شيئا سوى غمره بالترحيب والمحبة. لم يمض وقت طويل حتى تعافى تماما، بل وأصبح مثاليا في معاملة الآخرين بمودة وحنو.
ويؤكد "إيرك فروم" أن الحب ليس أمرا سهلا، بل أصعب من أية قدرة يملكها البشر كافة، ولكن أن يطبقه البشر على الآخرين الذين لا يرتبطون معهم بعلاقات مصلحة ما يعد عملا شاقا للغاية.

وقد يعتقد الزوج، أو الزوجة أنه يحب رفيقته لأنها جميلة، موهوبة وبارعة في أداء واجباتها. وهذا خطأ لأن الحب لا يعتمد على فضائل المحبوب، وإنما على قدرة المُحب على الحب. وهي قدرة ليست فطرية ولكنها تتحقق بالتربية، وذلك يعني أن الكبار يعلمون الحب للصغار مثلما يعلمونه القراءة والألعاب الرياضية. ويتحقق بضرب الأمثلة والتدريب فيتشبهون بها ثم يعرفون كيف يمنحونه بعد ذلك.

أما الخطأ المفصلي الكبير، فهو الاعتقاد أن الحب هو إعالة الأطفال ورعايتهم، غافلين أن ذلك هو ما تقدمه الحيوانات كافة، إلى صغارها.

إن خلق نفسية محبة هو ما يتعين أن نعلمه لأطفالنا، من الإفراط في التسامح وغض النظر عن أخطائهم. ولهذا الهدف تأسست مدارس مهمتها إصلاح الخلط ما بين مفهوم الحب، ومفهوم المهادنة، والحب الزائف. آخذين في الاعتبار أن الأساس لتحقيق هذه النجاحات هو أن يحب المرء نفسه حتى يتمكن من إعطاء هذا الحب إلى الآخرين، فمن البديهي أن فاقد الشيء لا يعطيه. ثم إن الأخطر من ذلك هو أن ازدراء النفس لا ينتج عنه إلاّ كرهها، وبالتالي لا يمكن إيصال معني المحبة حتى لأطفاله. ولعله من المفيد أن نتدبر تعريف الدكتور "روبرت فليكس" الذي اختتم حياته مديرا للمعهد القومي للصحة العقلية بواشنطن، الذي قال: "أن يكون لدى الإنسان شعور بالكرامة، شعور بتقدير نفسه، وكفايته مع إحساس سليم بالتواضع في الوقت نفسه". ويلخص رأيه بقوله: "إن العالم يكون أفضل بكثير مما هو عليه بقدرة الناس على الحب".

ولماذا نذهب بعيدا، ونحن نكرر، على الدوام، حديثا نبويا يرسخ مبدأ المحبة: "تَهَادُوا تَحَابُّوا"، في تقديري أن الغاية من هذا الحديث هي "المحبة"، التي يؤكد علم النفس أن فقدانها أمر مرعب، وأن ازدراء النفس وعدم الرضا عنها أمر يقود إلى الجنون، فتحابُّوا: تهادوا المحبة، فلعلها تفضى إلى هناء واستقرار فقدناه، منذ أن كانت ليبيا أفقر ثاني دولة في العالم. كان هذا الهناء يتنفس ويعبق مع روائح أطباق جيران الشارع الواحد طوال شهر رمضان.. ثم يتفجر كالألعاب النارية ليالي العيد.. تحابوا، فلعل الله يحببكم في بلادكم مثلما كنتم من قبل.