Atwasat

فكرة "العقد الاجتماعي" لدى بوذا

عمر أبو القاسم الككلي الأحد 07 يونيو 2020, 03:27 صباحا
عمر أبو القاسم الككلي

ارتبطت "نظرية العقد الاجتماعي" بثلاثة مفكرين، انغليزيين هما توماس هوبز ( 1588 – 1679) وجون لوك (1632- 1704) وفرنسي هو جان جاك روسو (1712-1778). وتتلخص هذه النظرية في قيام "عقد" بين المحكومين والحاكمين تنازل بمقتضاه الأولون عن حقوقهم أو جزء منها للأخيرين كي يديروا الشؤون العامة بمقتضى إرادتهم دون أية قيود.

لكن ثمة اختلافات جوهرية بين هؤلاء المفكرين الثلاثة في افتراض الدوافع المحركة لإجراء هذا العقد، الذي هو، بالطبع، تصور تمثيلي أو تخييلي.

فتوماس هوبز يفترض وجود حالة من الفوضى سابقة لإبرام هذا العقد كان فيها الجميع أعداء الجميع، كان فيها "الإنسان ذئبا لأخيه الإنسان". الأمر الذي جعل وجود هذا العقد ضروريا لتنظيم الحياة وحماية الأرواح والمصالح. على حين يرى لوك، تعارضا مع هوبز، أن البشر كانوا يعيشون حالة من السلام والتعاون والرخاء، واحتاجوا إلى سلطة تضبط ما تولد بينهم من مصالح وتنظمها وتديرها، فاختاروا التنازل عن جزء من حريتهم لهذه السلطة، وأن طبيعة هذا العقد طبيعة تمثيليه، أي برلمانية. أما روسو فقد طور رؤية لوك حيث اعتبر أن هذا العقد أبرم بين الجماهير نفسها، التي كانت تعيش حالة من السلام دون وجود سلطة، بحيث يقضي هذا العقد بقيام هيئة تشريعية تقوم بصياغة القوانين وتشرف على تنفيذها.

لكن جذور الفكرة أقدم من ذلك بكثير. إذ يقال أنها وردت لدى السفسطائيين وأبيقور، وعلماء القانون الروماني.

وفي هذا المقال نوجه الانتباه إلى ظهورها في الهند لدى بوذا، الذي عاش ونشط في شرق الهند بين القرنين السادس والخامس قبل الميلاد، وترك كما وافرا من الأقوال والتعاليم جمعها تلاميذه لاحقا في عدة كتب.

أثناء حديثه عن أصل الأشياء، يورد بوذا أنه في مرحلة من وجود الكائنات الإنسانية [يسميها في الترجمة* التي ننقل عنها: الموجودات] "ظهر... الرز بريا ، بلا نخالة ولا قشر، حلو الرائحة، جاهزا للاستعمال. مهما التقطوا منه في المساء لطعام المساء عاد بمجيء الصباح فنما ناضجا؛ مهما التقطوا منه في الصباح لطعام الصباح عاد بمجيء المساء فنما ناضجا" (ص207). لم يكن الحصاد والتخزين حينها معروفين. دام هذا الحال زمنا طويلا. لكن "خطر ببال أحد الموجودات ذي طبع كسول ‘مللت من أخذ الرز في المساء لطعام المساء وفي الصباح لطعام الصباح. لم لا آخذ الرز مرة واحدة فقط لوجبتي المساء والصباح؟" (ص208). ونفذ فكرته فعلا. وحين علم بذلك موجود آخر، راقته الفكرة، فأخذ كمية من الرز كافية لمدة يومين!. وهكذا أصبح كل من يعلم يأخذ كمية من الرز تكفي لضعف المدة التي احتاط لها الذي قبله. وعندها "صار الحب مغلفا بالنخالة والقشر، وما اقتطف منه لم يعد ينمو من جديد، وظهر الحصاد وقامت نباتات الرز في مجموعات" (209).
تطور الأمر إلى أن "أحد الموجودات ذا طبع جشع، أخذ، مع احتفاظه بسهمه، سهما آخر لم يعط له فأكله". فانتبه إليه الآخرون واستنكروا منه قيامه "بأخذ ما لم يُعطَ" طالبين منه عدم عودته إلى هذه الفعلة الشنعاء، فوافقهم على ذلك، لكنه ظل يكررها. بسبب ذلك "ضربه بعضهم بالأيدي، بعضهم بالحجارة، بعضهم بالعصي. من ذلك الحين عرف أخذُ ما لم يُعطَ والتأديب والكذب والعقاب" (ص210).

نتيجة لتكرر هذه الفعال اتفقت الموجودات على اختيار موجود من بينها "يكون له [حق] توجيه التهمة إلى كل من يستحق... أن يتهم، يكون له [حق] تأنيب كل من يستحق التأنيب، يكون له [حق] نفي كل من يستحق النفي" (ص210). مقابل منحه سهما من الرز.

على هذا النحو "جاءت دائرة الحكام إلى الوجود – مصنوعين من تلك الموجودات نفسها، لا من موجودات أخرى، من موجودات مثلها تماما، ليست مختلفة في النوع" (211).

مبدأ "العقد الاجتماعي" واضح هنا تماما. وطرح بوذا يجمع بين رؤية جون لوك وجان جاك روسو، القائلة بأن البشر كانوا يعيشون حالة من السلام والتعاون، ورؤية توماس هوبز القائلة بحالة الفوضى والعداء المستشرس بين البشر، وإن كانت الحالة الأخيرة لا تتصف لدى بوذا بهذه الدرجة من الفوضى والعنف، وإنما هي حالة بديئة تولدت في رحم الحالة التي قبلها سرعان ما جرى تلافيها بإبرام هذا العقد الذي يفوض الحاكم بردع المخالف (نشوء الجريمة وفكرة العقاب) وصيانة الحقوق والمصالح، مصالح الجماعة.

قد يعترض البعض بالقول أن هذا تفكير أسطوري، وليس تفكيرا عقلانيا. لكننا نذكر بأن طرح هوبز ولوك، وكذلك روسو ينطلق من تصور أسطوري هو الآخر، من حيث إنه يفترض وجود حالة عامة سائدة، سواء كانت سلبية أم إيجابية، قبل تقرير هذا العقد. كما أننا نريد أن نشير إلى أن البعض يعتبر البوذية فلسفة وليست دينا، لأنها نقلت التفكير من الاهتمام بالآلهة وطقوس إرضائها إلى الاهتمام بالإنسان ومصيره، وبالتالي تكون قد نقلته من السماء إلى الأرض، واستبعدت البحث في المسائل الميتافيزيقية.

لكن اللافت للنظر هو البعد الجدلي (الديالكتيكي) في طرح بوذا هذا. فلدينا مجتمع هانيء مرفه متجانس (الأطروحة)، تتولد في رحمه تباينات وتصدعات (نقيض الأطروحة)، فيتولد مركب جديد من الأطروحة ونقيضها (السلطة والدولة)، لإيجاد توازن مريح يكتنف المجتمع.

* أقول بوذا: نصوص مختارة من الكتب المقدسة البوذية (سوتات مختارة من النيكايات البالية). ترجمها [إلى الإنغليزية] وقدم لها ووضع حواشيها: روبرت غيثين. نقلها إلى العربية: وفيق فائق كريشات. دار الفرقد، دمشق 2017.