Atwasat

"خوجة أفندي" و "الخليفة"

رافد علي الثلاثاء 02 يونيو 2020, 05:22 صباحا
رافد علي

"شيد النورسي وغولن، المهندسان الفكريان للإسلام، بنية (دين متوافقة مع العقل) تتعانق مع الفلسفة والعلم وبذلك ارتقيا بدور القراءة الناقدة والنصوص المتنوعة في الفضاء العام بدلاً من الإذعان الوجداني الخالص أو التدين الشعائري المحض"*يافوس أكاديمي أمريكي من أصول تركية وأستاذ جامعي بجامعة جورج تاون الأمريكية الشهيرة. له اهتمامات بالشأن التركي، وركز على حركة غولن منذ بداياتها بأواخر القرن الماضي عندما تأسست في أزمير كمجموعة صغيرة. تراوحت اهتمامات يافوس بالخصوص بين المقالة الترويجية والمقابلات الحوارية مع غولن وإصدار كتاب تحليلي آخر صحبة زميل له بالجامعة بقصد تحليل "الظاهرة الغولونية".

غولن أو "الخوجة أفندي" كما يلقبه المقربون، هو المفكر الإسلامي التركي الملهم الرئيس للتيار الإسلامي في تركيا بقيادة آردوغان، إلا أن القطيعة بين غولن الأستاذ و"تلميذه" آردوغان قد تمت إثر المحاولة الانقلابية الفاشلة صيف، 2016 والتي تمخضت عنها حملات اعتقال خيالية شملت كل قطاعات الحياة بالبلاد، كما أوقف طلاب أجانب على هامش تلك الاضطرابات الأمنية بالبلاد، خصوصاً أولئك المسجلين بجامعات خاصة "تابعة للغوليين"، وتوجت تلك الحملة الامنية بعد فترة محدودة بتعديلات دستورية تعزز آردوغان في السلطة. غولن، المفكر الإسلامي، يعيش منذ فترة طويلة في ريف ولاية بنسلفانيا بالولايات المتحدة كمنفى اختياري، تعج حياته بالنشاط اليومي من خلال تواصلاته اليومية مع الأكاديميين ومراكز الأبحاث وله جمعية تباشر نشاطها التعليمي والثقفيفي بالبلاد المنصب على خلق "مسلم جديد" أو "الجيل الذهبي" إلى جانب غيرها من النشاطات بما يجعل الرجل في دوائر الضوء. يسعي فتح الله، كمفكر لأن يبني "بيتاً" يجمع أبناء تركيا فيه على اختلاف توجهاتهم كالعلمانيين اتباع الإرث الأتاتوركي في نخبة الفكر الجمهوري أوالقوميين أمثال سيزاي قاراقوش ونجيب فاضل قيصاكورك، أو الشيوعيين الذين كان مدهم الأيديولوجي كبيرا بحكم الجار الاتحاد السوفيتي السابق. فكرة بناء "بيت" للأتراك فكرة رمزية اختلقها المثقفون الأتراك الكلاسيكيون منذ عهد الصوفي سعيد النورسي، ولازالت الفكرة بارزة في المخيال الأناضولي والوجدان التركي، إلا أن غولن يسعي في بنائه للـ "بيت" بأن يكون إرادة للعمل في مجتمع يرغب للنهوض في مواجهة الحداثة، متجاوزاً أسلافه الداعين للعبادة والإصلاح المجتمعي حسب ما يرى يافوس المذكور أعلاه.

"غولن لا يرى تنويراً بلا رب" صِيغت هذه العبارة ضمن الحملة التنويرية لفكر حركة غولن لأجل التجديد في الإسلام التركي اليوم على غرار الإسلام في البوسنة وماليزيا وتتاركستان الذي يخلق من الإسلام توجهاً إنسانياً مبنيا لا علي الدين وحسب، بل على العلم والمعرفة وتعزيز روابط الفرد الاجتماعية وتقوية مكانته الاقتصادية بحيث يكون عضواً فاعلاً في مجتمعه كمسلم متعلم ومستنير وصاحب أخلاق رفيعة. فالشخص المستنير عند غولن هو الشخص القادر على دمج أفكار الدين والدنيا بتوفيقيّة موهوبة في عصره الآني وهو منخرط في حواره العام لأجل تحقيق مصلحته والصالح العام لوطنه. لا يعتقد غولن ونخبة أنصاره أن التنوير الأوربي قد جاء في عملية إقصائية للدين، بل نشأ من خلال حوارية فكرية مع الدين ذاته، بل إنه نشأ في كنف الدين نفسه استناداً على دراسات وأبحاث حديثة كما هو الحال عند بوكوك في "البربرية والدين. تنوير إدورد جيبّون"**

من الأشياء المثيرة في حالة الشقاق بين آردوغان وغولن بعد تحالفهما الذي شكل منعرجاً لافتاً لتركيا، نجد أنهما يسجلان أبرز محاولة انقلاب فاشلة في تاريخ تركيا، بما يعزز فكرة أن الاستخبارات التركية باتت تلعب الدور الأساس بدلاً عن الجيش الذي يعد نفسه الحامي والراعي للأتاتوركية أو العلمانية بالجمهورية التركية التي تأسست عقب هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الثانية، بما يجعل أنقرة في حالة وفاء لأحد معايير كوبنهاجن – تحييد الجيش- التي سنها الاتحاد الأوربي لأجل الشروع في مفاوضات استحقاق أي عضوية جديدة للاتحاد. تجدر الإشارة إلى أن الدولة التركية شرعت في تقليص دور الجيش السياسي في قضيتين شيهرتين الأولى المعروفة بـ "ارغينيكون"*** و قضية باليوزBalyoz، أو المطرقة عربياً. تجدر الإشارة إلى أن الجيش التركي انقلب على النظام المدني ثلاث مرات في 1960و 1971و 1997، والتي كلفت خزانة البلاد خسائر باهظة زادت من تفاقم أوضاع الأتراك تدهوراً مما مهد لحزب العدالة والتنمية متحالفا مع الغوليين بإحكام سطوته كفاعل حيوي ونشط في الحياة المدنية بتركيا لأن يصعد سدة الحكم.

جاء وصول أردوغان إلى السلطة متزامنا مع عدة متغيرات داخلية وخارجية وفّرت له بيئة النجاح، فخارجياً كانت الولايات المتحدة في حاجة إلى حليف إسلامي وسطي بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، في إطار مشروعها للشرق الأوسط الكبير، كذلك استغل أردوغان الرغبة التاريخية للأتراك بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي في الوفاء بمعايير كوبنهاجن كما أسلفنا أعلاه.
لعل الشقاق بين أردوغان وحليفه غولن ينصب علي تكالب سلطوي، فقد جمعتهما البراغماتية بعد سنوات التنظير والسجون، فأردُغان يرتكز إلى النظرة المحافظة الوطنية حسب حركة "ميلي جورش" التي تستند إلى أيديولوجيا لا تتفق مع الجمهورية العلمانية، بينما يقدم غولن نفسه وسيطاً بين الثقافة الغربية والإسلامية، حيث ترتكز مواقفه على الجمع بين القيم الغربية والليبرالية الإسلامية. بالمقابل أردوغان يرتكز على الماضي المجيد للإمبراطورية العثمانية، ويسعى من أجل تركيا قوية، ويجند في سبيل ذلك الخطاب الديني والقومي حسبما يؤكد جانيرأفير المتخصص في الشأن التركي. ولعل هذا يفسر حالة تعاطي غولن الإيجابية مع انقلاب مطلع الثمانينيات الماضية كونه لم ينتقده وتعامل معه عبر مجموعة "مفكري وطن" التي تأسست بسبعينيات القرن الماضي الشهيرة بتصادمات اليمين واليسار عنفاً وتنكيلا فاستخلصت هذه المجموعة أن الإسلام هو اللواء أو "البيت" الذي يجمع كل الأتراك، مما شجع غولن على أن يخرج للنور بآرائه مستبقاً انقلاب كنعان إيفرين عام 1980 الذي حافظ على علاقة طيبة بمفكري وطن ذات العلاقة الجيدة بالإسلاميين.

أمام حالة القلاقل التركية وطفرات النمو تظل تركيا دولة مرتبكة وأمرها غير محسوم مع ذاتها. فالعلمانية هناك تبقي "هرطقة" سياسية تتراجع مع تفاقم الأزمات الاقتصادية لم ينقذها من "الأسلمة" إلا الانقلاب العسكري، الهوية الإسلامية تبقى أعمق بسبب الموروث والتاريخ لكنها مرهونة سياسياً بأوهام الخلافة العثمانية التي لم تحقق إلا انغلاقاً إسلامياً على العلم والمعرفة تماما كما في تدابير سد الباب العالي الطريق التجاري أمام الغرب في اتجاه الصين قبل اكتشاف الرجاء رأس الصالح. آردوغان اليوم يعمل بمفرده بلا رصيد فكري بعد إزاحته الغولنية، متعززا بنصوص الدستور كرب أوحد سياسيا ببلاده وحريصاً على مد سلطانه عربيا طالما أنه تخلى عن حلم الأوربية، في حين قلاقله في الشرق مع موسكو وطهران وأيضاً مع القاهرة تتفاقم في مسارب بحثه عن مجد يسميه هو لأتباعه.

هوامش.
* م. ياكان يافوس، نحو تنوير إسلامي: حركة فتح الله غولن، جامعة أوكسفورد ط1، 2013
** J. G. A Pocock, Barbarism and Religion. The Enlightenment of Edward Gibben 1737-1764.New York, Cambridge University Press. 2001.
***ارغينيكون اسم لمنظمة سرية تركية قامت بدور الدولة العميقة في تركيا لسنوات طويلة لأجل حماية العلمانية. جاء الاسم ارغينيكون من الأسطورة التركية للوادي الذي استوطنته القبائل القوقازية عند قدومها لهضبة الأناضول من آسيا الوسطى.