Atwasat

الرحيل إلى طرابلس

أحمد الفيتوري الأربعاء 20 مايو 2020, 12:53 صباحا
أحمد الفيتوري

تم حلق روؤسنا صباح يوم الوصول، رفقة الصديقين عثمان السلامي وأحمد السوداني، كنت في السادسة عشرة من العمر، وعثمان زميل في الدراسة، كذلك من جيراني بحي الصابري، وكذا أحمد قبل انتقالهما إلى حي المحيشي. ولإشباع شغفنا للسفر، خططنا هذه الرحلة، اتفقنا أن تكون إلى طرابلس، قبل أي رحلة أخرى، آسف لقد زرنا مدينة درنة قبل، فهي تقع شرق بنغازي على مسافة 300 كلم، فيما طرابلس احتاجت لقضاء ساعات طويلة في الأتوبيس، لنقطع ألف كلم ونيف.

ومن سوء الحظ العام 1971م، دشنه الحاكم الجديد للبلاد، العقيدمعمر القذافي، بحلق رأس كل من شعره طويل، أراد أن يخوض معركة ضد الغزو الثقافي، والتشبه بالغرب وخاصة فرقة البيتلز (الخنافس)، وللأسف، لقد وصلنا يوم شرع في تدشين معركة من معارك «دون كيخوته»، في محاربة طواحين الهواء. وعقدت الدهشة نفوسنا، ورجعنا بروؤس صلعاء، ولم يعاودنا الحنين. ومازلت أذكر المقالة التهكمية، التي كتبها حينها، الساخر الكبير الصادق النيهوم، حول مطاردة الشعور الطويلة.

لكن لابد من طربلس، وإن طال المدى، بُعيد الأولى بسنوات أقل من أصابع اليد، عدت إليها مقيما كصحفي بصحيفة «الجهاد»، ما نقلت على عجل من بنغازي، فجئت لتنفيذ المهمة، وسكنت مدينتي التي سكنت القلب منذها. عملت رسميا بصحيفة «الجهاد» كمحرر صحفي، وكان المقر الذي استقرت به بشارع الوادي، كنت الشاب الوحيد الذي يدعوه الزملاء والزميلات بـ«الشرقاوي»، وما حفزني على الاحتفاء بهذه الكنية، أن الزميلات كنا معجبات بلهجتي، ما حرصت على إظهارها واتخاذها سبيلاً.

قبل وبعد الصحافة، كان الشغف المسرح، فكان مقر فرقة «المسرح الحر» مقري الأول، وفيه لقيت حفاوة الصديق، حيث نسجت وثلة من الاصدقاء ثوب المحبة، ومنهم من غادرنا كالممثل «شيخ الفنانين» سالم بوخشيم، أما الكنية فلقد منحت له، من فرقة المسرح الحديث ببنغازي، التي كنت أنذاك من قيادتها الادارية، إلى جانب المرحوم المخرج والممثل على بوجناح، والمخرج المسرحي والتلفزيوني على المصراتي، ولم يكن سالم بوخشيم فناناً شغفوفاً بالفن وبالبلاد فحسب، بل إنه قبل وبعد مترع بإنسانية وتعاطف معطاء، لهذا فهو المحبة تمتطي رجلين لا يكلا، وفيما يخص محبة البلاد، كنت لما يدعوني للعشاء في بيته، وفي أخر أول النهار يقوم بتوصيلي إلى الفندق محل إقامتي، لابد أن يمر بي من شارع عمر المختار، كي نرى معا كلمة «ليبيا»، أعلى مبنى معرض طرابلس الدولي، ما نسيت ولم تزل، ويجهش بالبكاء حسرة على ليبيا وزمانها، وكان عاطفياً دمعه سيال في الأفراح والأتراح.

توطدت علاقتي في المسرح الحر بالكاتب المسرحي المرحوم سليمان المبروك، والمخرج محمد العلاقي من كانا الصديقين في الحياة والثقافة وخاصة المسرح، كصديق العمر عبدالرزاق العبارة، وعلى الخمسي، والصيد بوديب، وأحمد إبراهيم الفقيه، وعبد الله تامر، وناجي البكشي، ومصطفى المصراتي من توفاه الله مؤخراً ومن عشت معه صداقة حميمة، وترددت على بيته كثيراً، وتناقشنا حول التمثيل، وقد أخذه وقتها التمثيل التلفزيوني، وبدا كنجم، فحاورته كثيراً حول التمثيل والفارق بين الممثل والنجم، واختلفنا في وجهات النظر، حول الممثل المسرحي والممثل التلفزيوني، كنت منحازاً للمسرحي، وليهديء الجلسة المحمومة يأخذ في الغناء والعزف على عوده.

«المسرح الحديث» ببنغازي، ما جعلني في «المسرح الحر» بطرابلس، حيث في الفرقة الأولى نشأت كمسرحي، مهتم بالثقافة المسرحية، ولهذا كنت رئيسا لتحرير «الرائد» مجلة الفرقة، ما تطبع على الآلة الكاتبة وتسحب كنسخ على «الاستنسل»"، من هذا جمعت بين الصحافة والمسرح. أما الجمع بين الفرقتين، فداوفعه أن حصلت توأمة بينهما، وذلك بعد أن أصدرت حكومة القذافي قرارا متعسفا، بألغاء الفرق المسرحية، فدمجها في فرقتين، في كل من المدينتين.لكن «الحر» في طرابلس و«الحديث» في بنغازي رفضتا القرار، وجاء عبد الرزاق العبارة إلى بنغازي كمندوب عن الحر إلى الحديث، ما كلفت أن أكون مندوبه في الحر بطرابلس، ولقد ساهمت الفرقتان في افشال القرار ما جمد.

كأنما المسرح والصحافة في ليبيا تلك توأمان، فكثيراً من مساءات تلكم الأيام، ما عرجت على بيت المخرج المسرحي محمد القمودي، منتدى الفنانين والصحفيين، حيث ألتقي الصديقين والزميلين الصحفيين محمود البوسيفي وبشير زعبيه، وإن لم ألتقهما أكون عرجت علي بيتي الآخر، بيت صديقيّ وزميليّ الشاعرين أحمد الحريري وفاطمة محمود. وقبل ذلك فإن الملتقى والندوة مقهي زرياب لصاحبه صديقنا محسن كحيل، حيث يكون الحبيب الفنان رضوان بوشويشة والشاعر جيلاني طريبشان والناقد فوزي البشتي وغيرهم، ومنهم يوسف القويري من كان حضوره النادر يجبّ كل غيابه، أما لقاء الصديقين أمين مازن ويوسف الشريف فتلك حكاية.

وبعد كنت أتمشى في شوارع طرابلس حبوراً، مع المشاء الشيخ علي مصطفي المصراتي، وأعرج على مقر الدار العربية للكتاب لألتقي بزهو الأستاذ خليفة التليسي، من لم أزره مرة دون أن أخرج محملاً بجديده من الكتب وكتب الدار.

الرحيل إلى طرابلس، كان في أواخر العام 1974، وأول عامي التاسع عشر، وفي العام 1978م سأغادر شوارعها إلى سجن طرابلس (بورتا بينتو) لسنوات عشر، حيث في يومي الأول سيحلق شعري، وأغادر طرابلس أصلع الرأس.