Atwasat

"تعاطف الجوارح"

محمد عقيلة العمامي الإثنين 18 مايو 2020, 07:40 صباحا
محمد عقيلة العمامي

في سبعينيات القرن الماضي قضيت أياما مع صديق عزيز في برايتون ببريطانيا. صحوت قبله صباح ليلة وصولي، وفيما كنت أعد قهوتي، رأيت عبر مربع الباب الخلفي الزجاجي، شجرة دردار عملاقة، من بعد حاجز مشجر، ومن ورائه مساحة خضراء شاسعة، ورأيت أشكالا بيضاء مبعثرة لم أعرها انتباها فقد ظننت أنها كتلك الصخور الصغيرة، حول الأثر الصخري "ستونهنج" أو "كرومليش" الذي يرجع لعصر ما قبل التاريخ في سهل (ساليسبري) جنوب غرب إنجلترا.

فتحت الباب، كانت هناك طاولة أنيقة بمقاعد من أخشاب شجر طبيعية، من تلك النوعيات الأنيقة التي تستخدم في حدائق الفيلات الخاصة، ونظرت مبهورا إلى الشجرة والمرج الأخضر من خلف الحاجز المشجر. كان المنظر كلوحة طبيعة صامتة مرسومة في بطاقة دعوة للجلوس، فجلست! وغمرتني نسائم ربيعية محملة بروائح البابونج وظللت مستمتعا منصتا لمعزوفات حفيف وريقات الحاجز في تلك الجلسة البديعة، فيما يتواصل تغريد الطيور تعلن لإناثها أنها أتمت لها أعشاشها. كان صباحا جميلا أنساني صخب الليلة الماضية.

لم أسمع صديقي وهو يعد قهوته، ولكنني انتبهت عندما وقف ينظر من خلفي إلى الخضرة وجمال المنظر، وقال:

- "رائعة هذه المقبرة!".
- "مقبرة!" قلت منزعجا ووقفت. وانتبهت إلى أن ما رأيته صخورا هي في الواقع شواهد قبور!

- "نعم. إنها مقبرة كانت تحتل مساحة كبيرة، وجميلة ومع الزمن أصبحت في داخل المدينة، فقامت البلدية بتصميم مساكن صغيرة أحاطت بالمقبرة، وكأنها سور لها. ولكن قليلين هم الذين يرغبون في العيش بجوار القبور..." قاطعته ساخرا:
- "فجيت أنت وجاورت المقبرة. لابد أنك حنيت إلى مقبرة سيدي حسين؟ "

- "لا يا راجل عندما جئت كانت هذه البيوت هي الأرخص إيجارا فسكنت، فأخوتك من موتى الليبيين ليسوا مزعجين، فما بالك بالنصارى، لا علاقة لهم لا بالعفاريت ولا بالغوال. وكما ترى أصبحت كحديقة خاصة لي. تعال. وانظر بنفسك " وفتح مزلاج باب صغير ودخل وأنا من خلفه. وحدثني عن طرائف حدثت له طوال سنوات، خصوصا من رفاق جاءوه بحقائبهم، وغادروا اليوم التالي بمجرد أن علموا أنها مقبره. أما والدته فبقيت معه أكثر من ثلاثة أسابيع ولم تعرف أبدا أنها مقبرة! كانت القبور متنوعة الشواهد ومتباعدة ولولا معرفة المرء بالصلبان لما فكر أنها مقبرة. قلت له:

- "لعلها لنبلاء". أجابني: "إنها مقبرة وكفى". ثم أخذني إلى قبر لابد أنه يعرفه واقترب من شاهده، وكان يحمل منديل ورق، ومسح على جملة محفورة في الشاهد وقال: "أقرأ". اقتربت وانحنيت وأمعنت النظر. كان المحفور: "He was sympathetic ". قلت وكأنني أترجم له: "كان عطوفا"!! وأضفت مستغربا، ومتسائلا: "باهي! وبعدين". أجابني: "يا أخي تريث. حاول أن تتخيل على من تطلق هذه الصفة. حاول أن تخلق لي منها شخصية نعرفها أنا وأنت. دعنا نرى لماذا نقول عن فلان أنه عطوف؟".

وتحدثنا طوال اليوم عن العاطفة والتعاطف، وحاول أن يقنعني بشتى السبل أن الإنسان ليس عطوفا بطبعه فوراء نعومته وابتسامته وحشية، وقوة، ورثها عن أجدادنا البدائيين، وحدثني عن معسكرات الاعتقال بامتداد التاريخ والحروب والعنف. بل وفسر وأورد أمثلة من نماذج عاشت معنا ونعرفها، وكيف أنهم فقدوا في طفولتهم العطف من أسرهم فكانوا قساة، بل منهم من اختار طواعية، مهنة تعذيب الناس!.

بل وذهب في تفسيره إلى أن كثيرا من الزيجات بدأت بحب وانتهت بطلاق بسبب عدم التعاطف، وعدم تقدير الطرف الآخر لحاجة شريكه إلى التعاطف. وحكى لي عن أديب إنجليزي، اقترح على رجال التعليم في بريطانيا أن يعلموا الأطفال أن "التعاطف" شجاعة وشهامة وليست ضعفا.

وتذكرت أحد رفاق طفولتي الذي كانت متعته إيذاء مخلوقات الله كلها، ولما عاني من كسر في فخده عرف الألم وتعاطفنا معه، وبالفعل توقف عن الأذية.

ولما حان رحيلي أخذني إلى محطة القطارات وأهداني أسطوانة اشتهرت في ذلك الوقت عنوانها: "SYMPATHY" لفرقة اشتهرت في ذلك الوقت اسمها "RARE BIRD " تقول ترجمة كلماتها:

".. التعاطف هو ما نحتاجه يا صديقي، لأنه ليس هناك ما يكفي من الحب للهناء
نصف العالم يقصف النصف الآخر، ونصف العالم لديه كل الطعام
ونصف العالم ليس لديه ما يكفي من الحب والتعاطف.".

لم يخطر ببالي أني أبحث عن هذه الأغنية، وأستلف سماعات أبني وأنصت إلى كلماتها وأتذكر كم كان صديقي عطوفا!
فهل تعرف الجوارح معنى "التعاطف"؟