Atwasat

الحمل الكاذب

رافد علي الإثنين 18 مايو 2020, 07:36 صباحا
رافد علي

لازالت قضايا الإصلاح محل تجاذبات بمنطقتنا العربية لما للإصلاح من أبعاد مرجوة من شأنها أن تحرك الراكد وتجدد الروح العربية الباهتة والمنهكة بسبب الإحباطات والانكسارات المتواصلة. فالإصلاح كمفردة تعتبر حديثة الميلاد في الخطاب العربي الذي يعاني من الشطح وعدم ملامسته للواقع وإغراقه في التنظير بعد أن أمضى عقودا جوالا في رحاب الآيديولوجيا وتفسخاتها. الخطاب الديني السائد لازال يصف الشيخ محمد بن عبد الوهاب والأفغاني ومحمد عبده بكونهم إصلاحيين، في حين ساد الوصف عند تناول تاريخ حركة الأخوان بأنها أُسست كحركة دعوية وإصلاحية. الإصلاح اشتعل في وسائل الإعلام العربي، وزاد شيوعاً بعد أن نادى به جورج بوش الابن بعد هجمات القاعدة على حيّ مانهاتن، وعقد القادة العرب قمة عربية بعد أشهر للتعاطي مع استحقاقات السياسة لتلك المرحلة بعد ترتيب أمور بيوتهم.

الإصلاح كمفرة عربية تبقى مبهمة في قواميسنا العربية، إذ يفسر الإصلاح بأنه ضد المفسدة، ويفسر الفساد بأنه ضد الإصلاح، ويجتهد رجالات الفقه الإسلامي في تفسير مدلول الإصلاح من خلال ما جاء في القرآن الكريم من فك للنزاعات- الحجرات 9- أو في السعي لعمل الخير- آل عمران 89 – والدعوة للتقوى - سورة الأنفال1.

الإصلاح عربياً عموماً تتضارب فيها المعاني مع المصطلحات اللاتينية، ولعل من أبرزها كلمة Reform المنصب مدلولها التاريخي في الفلسفة اليونانية على إعادة رسم الصورة - الكيان- وتركيبة المادة – الناس أو الأعضاء- كما يتحدث أفلاطون في كتابه المعروف بالجمهورية. وقد تماهى الإصلاح في البيانات المختلفة الصادرة بمنطقتنا أثناء فترة إدارة بوش الابن مع مفردة التطوير Develoment، بحيث تشمل التنمية، وفي أحيان أخرى قد نجد الإصلاح منصباً على تحول جذري أعمق يتمركز حول مدلول Rebuilding اي إعادة البناء.

الثابت في الأمر عربياً أن الإصلاح يكون مطلوباً حين يوجد فساد أو مفسدة حسب ما بينا سلفاً من باب لغوي بحت، ونظراً لأن المؤسسة العربية عموماً تعتبر نفسها فوق شبهة الفساد وأعلي من مراتبه، فحال كبرياؤها دون تعيين مَحَال ومواطن الإصلاح المطلوبة مما زاد من واقع إبهامات الإصلاح ومقاصده عند النخب والمثقفين ورجال الدين وفي الشارع، لكنه، الإصلاح، ظل دائما شعاراً سياسياً مرفوعاً بكثافة في أجهزة الإعلام العربية والأحزاب وغيرها ممن هو منخرط في النشاط الأهلي كالحركات السلفية، حتى حلت أيام الربيعيات هذه، فرددت المعارضة بكافة ألوانها حينها أن من سقطوا من حكام "كانوا قد فشلوا أو تأخروا في تحقيق الإصلاحات الملحة التي كان ينتظرها الشارع."

الربيعيات العربية وما توّلد عنها من صعود للتيارات الإسلامية لسدة السلطة في تونس ومصر وليبيا واليمن، أَغراها تفوقها على التيارات الأخرى من خلال سيطرتها على المشهد السياسي المرتب أساساً، متناسية ضرورة تحقيق إصلاح في منظومتها الفكرية. ولعل تدافع القوى السلفية بكل أطيافها لاقتحام الربيع المصري قد أدى لأن أضحت مصر هي المصّدر للسلفية بعد عقود كانت فيها السعودية هي الكفيل والراعي والمصدر للفكر السلفي عموماً.

رغم ما حققته بعض التيارات السلفية من تحول ملحوظ في موقفها تجاه "الديمقراطية" من خلال انخراطها في العمل السياسي بعد عقود من العزوف عنه، لا يمكن اعتباره حالة إصلاح حقيقي بفكرها، بل يمكن تكييفه بأنها حالة انتهاز لفرصة سياسية مفتوحة، أو براغماتية معاصرة للانتشار بشكل أفقي أوسع لمبدأ "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" بسطوة أوسع لعنصر الدين بعد سقوط الموانع القديمة، خصوصا الأمنية والرقابية، فحتى وإن نظرنا لهذه المشاركة من السلفيين في العمل السياسي على أنها حالة اختراق غير مسبوق لمبدئها العام بعدم الخروج عن طاعة وليّ الأمر تظل الوضعية ليست ذات أهمية لأن صاعقة الربيع أربكت حسابات السلفية وكان لضغط الجموع في الشارع دور هام في الضغط على قادة السلفية بمصر لأجل تسجيل موقف تجاه ما يجري بـ "مع أو ضد".

فالتأصيل السلفي للعزوف عن الانخراط في العملية "الديمقراطية" أو السياسة العربية قبل الربيعيات بشكل أساس مرده اعتبار الديمقراطية "بدعة وكفرا"، وأن الحكم في الإسلام يبنى على التنظير التراثي لفكرة الإمامة المبنية تاريخياً على بيعة العقبة. وهذا التأصيل التراثي للسلفية يتجاهل كلياً للأسف أهمية صحيفة النبي التي أبرمها بالمدينة، وكانت مشتملة ومنظمة للحقوق والواجبات بين الأطياف الاجتماعية بيثرب حينها. صحيفة النبي هذه هي الشكل الأقرب لنظرية العقد الاجتماعي عند دور كايم*، لأنها عقدية تشتمل على شق الدولة، أوالصورة كما أسلفنا أعلاه، وتحتوي أيضا علي الشق المادي وهو الشعب أو السكان. أما بيعة العقبة فهي مقتصرة فقط على الإمام أو الحاكم، لأن الرعية تظل في اللامفكر فيه إسلامياً رغم شعارات الشورى التي لا تنزل من على المنصات.

التيارات الإسلامية بالمشهد الربيعي عموماً في هذه الزاوية لاتزال غير معنية بهكذا طرح حسب لسان حال الراهن اليوم، بما يحول دون القول بأن إصلاح السلفية قد وقع بشكل عميق وحقيقي، ورغم كل الإثارة الخطابية التي ألقاها الشيخ السلفي عبدالرحمن عبد الخالق في مؤتمر السلفية الأول في اسطنبول باكتوبر 2012، والذي اعتبر أن القبول بالنظام الديمقراطي يعد "مرحلة انتقالية"، إلا أنه لم يتردد بذات خطابه في اعتبار أن المرحلة الانتقالية لا تعرقل الوصول "لإقامة دولة الخلافة الإسلامية الرشيدة" باعتبارها الهدف السلفي الأساس. السيد عبدالخالق كان من الأسماء البارزة في التيار السلفي بدولة الكويت وكان منهمكاً قبل الربيعيات بالتنظير للانخراط في السياسة. وجب الإشارة هنا إلى أنه لازال بعض السلفية تفضل عدم الانخراط في العملية السياسية كما هو الحال في الاتجاه المدخلي أو الجامي الذي ينتقد انخراط الحركات السلفية مع الربيعيات العربية سياسياً، ويصف اختياراتها في ذلك بأنها تدابير تعود بالسلفية لأحضان حركة الإخوان كما كان الحال في النصف الأخير من القرن الماضي في مصر والأردن.

ميثاق الشرف السلفي الذي صِيغ في مؤتمر اسطنبول لا يخفي أن أسلمة الدولة والمجتمع مازالتا من أساسيات التغيير والإصلاح، وهذا ما تؤكد عليه مجلة البيان السلفية بشكل دائم باعتبارها أحد المنظمين للمؤتمر السلفي الأول في تركيا، وهذا يجعلنا على أعتاب حقيقة أن مبدأ الإصلاح عموما والفكري تحديداً لازال متضارباً أو متناقضاً بين أطياف المجتمع العربي، فالسلفي لازال يعتقد أن المرجعية في الإصلاح تكمن في الرجوع إلى الماضي، وعلى مضض، في حين غيره من الأطياف يركز علي مرجعيات الحاضر وفق نظريات المدنيّة وتوجهاتها بكل ما لها وما عليها، وهو ما يجعلنا نجزم بأن الربيعيات لم تكن إلا حملاً وهمياً لازال باهظ التكاليف وأن دروسه لازالت ربما لم تستوعب بعد، أو أنها تبدو متعسرة وممتزجة بمرارة حقيقة انعدام بروز ملامح واضحة لحراك وطني الطابع ومدني الهوية ومستقل كَما هو مفتقد بشكل بيّن في ليبيا واليمن باعتبار أن كليهما تتقاطع فيهما مصالح إقليمية ودولية مردها الاستراتيجيات السياسية للقوى بالمنطقة من جهة، والمصالح الاقتصادية من جهة ثانية، وصراعات الآيديولوجيا بين الإسلامي والمدني التي لازالت تنهش المنطقة من جهة ثالثة.

* الحقيقة أن "العقد الاجتماعي" ارتبط بروسو وهوبز ولوك. وأن دوركايم يعارض نظرية "العقد الاجتماعي". (المحرر).