Atwasat

باب الحديد وفوقنا عساسه

محمد عقيلة العمامي الإثنين 11 مايو 2020, 10:23 صباحا
محمد عقيلة العمامي

بحسب الكشف الذي تعد الوسط منه برنامجها "في مثل هذا اليوم" يكون رحيل المرحوم عبد المجيد الهادي كعبار، أحد الرجال المؤسسين لدولة المملكة في شهر مايو. ولكن تجميع المعلومات عن هذه الشخصية الوطنية بيّن لنا تضارب تاريخ وفاته، إلى تمكن الأستاذ سليمان منينه من الاتصال بابنة فريد وجاء لنا بالتاريخ الصحيح، وهو 4/ 10/ 1988.

في عهد وزارة السيد عبد المجيد كعبار كنت قد أصبحت كاتب فواتير بنظارة الأشغال، وأذكر جيدا قضية فساد اشتهرت في مطلع الستينيات، في مشروع تنفيذ طريق يربط ولاية فزان بالساحل الليبي، الذي تولته ،آنذاك، شركة (ساسكو) التي يملكها المرحوم عبدالله عابد السنوسي قريب الملك وأحد رجال الأعمال الذين برزوا في الخمسينيات ومطلع الستينيات. ولقد كثر، حينها، لغو عن فساد بلغ ملايين!.

من وثائق تلك القضية مقال نشرته صحيفة مسائية طرابلسية، في أغسطس سنة 1960، كتبه الأستاذ محمود سليمان موسى، مفاده وقوع فساد في عقد مقاولة ذلك الطريق. وكان، حينها، رئيس الوزراء المرحوم عبد المجيد كعبار، خارج البلاد في زيارة لبعض الدول الغنية طالبا للمعونات والمساعدة، إذ كانت الأحوال الصحية والاقتصادية في ليبيا بالغة السوء، وكان البرلمان في عطلة صيفية.

وما إن انتشر خبر الجريدة، حتى سارع عدد من النواب بالاجتماع لمناقشة هذا الأمر الخطير! وكان النائب السيد عبد المولى لنقي أطال الله عمره متزعما هذه الحركة البرلمانية.

وقع النواب على عريضة مقدمة للملك طالبين دعوة البرلمان بمجلسيه للانعقاد للنظر في تلك المسألة التي لم تعتدها حكومات ذلك الزمن الجميل، وفعلا ذهب عدد من النواب وقابلوا الملك الراحل وقدموا له العريضة، وكان المتهم، مثلما يعرف الناس، هو ابن عم الملك. فوافق الملك وأصدر مرسوما بعقد اجتماع طارئ لمجلس الأمة للنظر في موضوع الفساد المنسوب للحكومة ولابن عمه.

عاد رئيس الوزراء إلى البلاد، متوقعا استقبالا يليق بما حققه من نجاح فيما سعى إليه، فلقد تحصل على المعونات الاقتصادية، ناهيك عن معونة مالية بقيمة عشرة ملايين دولار، كانت ضرورية لاستكمال عدد من المدارس الداخلية والمستشفيات ومشاريع إسكانية متفرقة. إلا أن السيد كعبار، وجد العكس تماما.

وعقد البرلمان جلساته للنظر في تهمة الفساد هذه، والموجهة للحكومة بقيمة نصف مليون جنية، وأصدر البرلمان قرارا بسحب الثقة من حكومة كعبار التي تعد من أفضل الحكومات الليبية إنجازا وبناء. تلك الحادثة الدستورية لم تقع، حينها، في أي دولة عربية ولا أفريقية. فسقطت الحكومة والتزم الملك بقرار البرلمان.

ولقد علمت من السيد سليمان منينه أن الأموال موضوع القضية هي أربعة ملايين جنيه إضافية طلبتها شركة عبد الله عابد لاستكمال طريق فزان وليس نصف مليون جنيه. وأنه خلال تلك القضية تأسست جبهة معارضة داخل البرلمان وكان من أهم قادتها الأستاذ عبد المولى لنقى، والأستاذ بشير المغيربي، والأستاذ على مصطفى المصراتى، والشيخ محمود صبحى والفيتورى زميت. ولقد اكتسبوا شهرة كبيرة لدى الجماهير، وحاول المرحوم عبدالمجيد كعبار إجراء تعديل في الحكومة بإدخال بعض من المعارضين فيها ومنهم الأستاذ عبد المولى الذى رفض التعيين واعتذر للملك عن قبول وزارة الصحة.

وأعد قرار سحب الثقة من الحكومة. ولكن رئيس المجلس استغل الفترة المسموحة بتأجيل التصويت على القرار لمدة أسبوع، وقدم استقالته. ولم تسحب الثقة من الحكومة. وإنما كلف السيد محمد عثمان الصيد بتشيكل حكومة جديدة.

والأمر المهم أن التحقيقات التي أجرتها السلطات المختصة في واقعة الفساد، والتي استعانت بفريق فني سويسري، توصلت إلى عدم صحة هذه الواقعة!!! ثم سوي الموضوع بالطرق القانونية.

يقول الأستاذ سليمان منينه أنه عاصر تلك الأحداث كشاهد عيان، فعلى الرغم من صغر سنه تابع جلسات مجلس النواب من الشرفة المخصصة لمن يريد من الزوار المشاهدة بشرط الحصول على بطاقة دخول، وكان والده رحمه الله، وبحكم أنه عضو مجلس الشيوخ يحصل له على بطاقة حضور، وكان مثلما حدثني، مبهورا بالخطب الحماسية التي يلقيها السادة النواب في تلك القضية.

لقد عاصرتُ صبيا هذه الواقعة، ولم أفهم سوى أنها فضيحة، وأن الرجال الكبار في ذلك الوقت لم يكونوا كلهم شرفاء، ومنهم قطط سمان، واندرج الأمر عندي، مع حالة "غباء القطيع"، وهو يغني: "حلال الجلاء منك يا بنغازي.. " و "باب الحديد وفوقنا عساسه..." وأيضا: "وين ثروة البترول يا سماسرة!؟".

ولم يتغنَ أحد، من القطيع، بحقيقية إنجاز ملكي هام للغاية مفاده، أنه بعد ثلاث سنوات من الاستقلال تأسست جامعة ليبية، وبعد عشر سنوات أصبحت أفضل الجامعات العربية، بشهادة الدكتور طه حسين في حديث إذاعي مباشر، وثابرت من البداية منح الطلبة بدلتين سنويا، ومنحة شهرية وصلت حتى 25 جنيها، وكانت تعادل مرتبا حكوميا، ويوفد المتفوقون كل سنة في رحلة ترفيهية من دون التمييز بين متفوق وآخر، وما إن يتخرج فيها المتفوق حتى يعين معيدا ويوفد للدراسة في أفضل جامعات العالم. لم نسمع حينها من يتغنى بذلك أبدا، تماما مثلما لا نسأل الآن "عن ثروة البترول "، ولا عن أبواب الحديد، التي أصبحت مكهربة، ولا عن العساسة المدججين بسلاح خارق حارق. لم يستمر شيء سوى "النزوح" الذي يعني على نحو ما "الجلاء"، أما الإيفاد فقد تغيرت أهدافه وأصبح رشاوى تمنح لمن يساعد في نهب البلاد والعباد.