Atwasat

سياحة ثقافية!

أحمد الفيتوري الثلاثاء 28 أبريل 2020, 11:02 صباحا
أحمد الفيتوري

• ناقة طرفة

إن الجمل هو الحيوان العربي، أو هكذا وسم في تصورات الآخرين، وإذا لم يكن كذلك فإن الجمل هو حيوان ديوان العرب، أي إننا سبق – كما في حياتنا – ورأينا الجمل يشكل ويشاكل مخيلتنا. لم نره في صيغة سردية من قبل، بالتالي لا مثيل لهذا المهري الأبلق، لكن العرب صاغوا حيوانهم بأشعارهم، منذ أن وجد العرب في الناقة ملاذ قوة غريبة. يقول ثعلبة بن صعير المازني:

وإذا خليلك لم يدوم لك وصله
فاقطع لبانته بحرف ضامر

ان العلاقة بين الشاعر العربي وناقته، علاقة القوة في مواجهة الوحدة، والناقة كما يشير ثعلبة البديل القائم لبقية العلاقات. إن الناقة ليست وسيلة اتصال بل هي عند الشاعر الوصل ذاته، فالناقة هي حيوان الصحراء وفيلسوفها، هي رمز القدرة والبقاء، فهي الحركة والثبات وهي الصبر والغدر. بل ناقة الشعر العربي هي سراب الصحراء، معادل الشعر، الشعر الذي هو الوجود من حيث هو قوة فاعلة، والشعر الذي هو نتاج الجن فهو قوة من خارج الشاعر في نفس الوقت. هكذا يبدو أن:

لخولة أطلال ببرقة ثهمد
تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد
هي حديث طرفه بن العبد عن المرأة الذي لا يحقق فكرة الصلة والاندماج قدر ما يحققه حديث الناقة، لأن الناقة أرفع عند طرفة من الجنس وأكثر سمواً من الإنسان، فناقة طرفه هي المناعة عن الآخرين.

لكن إذا كان طرفه قد جعل من ناقته القرين، فإن القرين كما تقول القواميس هو زوال الوحشة ووضوح القصد، والدخول في قلب الآخر وهو المصاحب والشيطان المقرون بالإنسان لا يفارقه، السؤال: لماذا وجد طرفه شبهه في الناقة؟، يقول طرفه في معلقته:

ومازال تشرابي الخمور ولذتي
وبيعي وإنفاقي طريفي ومتلدي
إلى أن تحامتني العشيرة كلها
وأفردت إفراد البعير المعبد.

إن طرفه أفرد عن القوم الذين انفرد عنهم؛ هو الذي كان يعيش، في ظاهر الأمر، معهم غير أنه ليس منهم، ولهذا فتمرد طرفة عن العشيرة ليس هو مقدمة لإفراده كبعير أجرب، بل هو النتيجة؛ لأن لطرفة الشاعر ذاتا تجنح للانفصال فلا تقبل إلا ما تريده وما تريده المستحيل؛ طرفة يعاني مشكل الموت الذي يغفل عنه الآخرون:

فإن كنت لا تستطيع دفع منيتي
فدعني أبادرها بما ملكت يدي

إن تفرد طرفة جنوح لمواجهة مستحيلة، فهو يرى الموت ساكنا في السكون في الارتكان والارتهان للثوابت، والعشيرة ثوابت ساكنة، بيت بأوتاد تضرب في الأرض؛ لهذا يمضي طرفة إلى الطرف الآخر إلى الناقة.
واني لأمضي الهم عند احتضاره بعوجاء مرقال تروح وتغتدي
إن ناقة طرفة هي القرين الذي يركن إليه دون أن يسكن إليه، إنه في عدو معه، في مواجهة عدو يكمن في المكان، وهي تستوعب البناء والتشييد مثل قنطرة الرومي دون أن تكونه، إنها الملجأ الأمين الذي لا يأمنه من الموت لأنه الموت ذاته:

آمون كألواح الأران نصأتها
على لاحب كأنه ظهر برجد

إن الناقة هي الوقاء والاحتماء مثل الباب المنيف الممرد، وبيوت الوحش في أصول الشجر:

كقنطرة الرومي أقسم ربها
لتكتنفن حتى تشاد بقرمد

إنها قنطرة وجناحا النسر، السقف المسند والظهر العالي، وهي الكهف الذي ذكر في معرض عظام العينين، إن طرفة يواجه قدرا متمثلا في ثبوت الآخرين وسكونهم، ويواجه هذا القدر بالناقة، بيت الوحش؛ الكهف:
على مثلها أمضى إذا قال صاحبي

ألا ليتني أفديك منها وأفتدي

ويخال طرفة نفسه يمسك بزمام الموت وهو يمسك بلجام الناقة، ويخال أنه في تابوت حصين وهو على ظهرها لأنها عنده ملاك الموت الذي يسير به حثيثا إليه. ولهذا فناقة شعر طرفة ليست من ناقة الناس كافة، إنها كناقة صالح التي في عقرها الريح الصرصر، غير أن ناقة معلقة طرفة حمالة الموت:

لعمرك أن الموت ما أخطأ الفتى
لكالطول المرخى وثنياه باليد.

• كتاب في اللغة
عندما نسمع عن أعمال، شجاعة نادرة في الحروب، فإن ذلك إشارة إلى أن المعركة، لا تسير باتجاه النصر. فعندما تجري الحروب، حسب الخطة ويكون جانب ما رابحا، لا تكون هناك أي حاجة، إلى أعمال بطولية مميزة، عند ذلك الجانب. الشجاعة غالبا، ما تكون مطلبا، للجانب اليأس.

إن براعة وتطور بعض التجارب التي مررنا بها، قد يكونان ملهمين، بشكل يسهل معهما اعتبارهما إشارات نصر عظيم، في معركة العلم، للسيطرة على حصن العقل البشري. غير أن الاستنتاجات المذهلة، لتلك التجارب، ليست في الواقع، أعراض قوة عظيمة. بل أعراض، ضعف شديد.

لكن اعذرونا على جهلنا، يا قراء الأجيال المقبلة، فإننا نعذر من سبقونا، على جهلهم. لقد اتضح لدينا سر الوراثة، غير أن تمكننا من رؤية هذا الضوء الساطع، استلزم دأب أسلافنا، غير المنقطع، على البحث في الظلام. فإن تكرمتم، يا أيها اللاحقون بنا، أن تنظروا، إلى الأسفل باتجاهنا، من قمة شموخكم، فتذكروا أنكم، قد وصلتم إلى تلك القمة، بالتسلق على ظهور مجهوداتنا. فتلمس الطريق، في الظلام، لا يحوز أي شكر، والانتظار بهدوء، حتى يشع علينا نور الفهم، هو شيء مغر. ولكن، إذا استسلمنا لتلك الغواية، فلن يأتي ملكوتكم قط.

- عبر منظار اللغة (لِمَ يَبدو العالم مختلفا بلغات أخرى؟) – غاي دويتشر- ترجمة حنان عبد المحسن – عالم المعرفة 429 – أكتوبر 2015م.