Atwasat

سي الباهي.. أو العدو خلف السراب

سالم الكبتي الخميس 23 أبريل 2020, 01:55 صباحا
سالم الكبتي

«نحب البلاد 

كما لا يحب البلاد أحد
صباحا،، مساء
وقبل الصباح وبعد المساء
ويوم الأحد»
محمد أولاد أحمد

الزيتون وعراجين الدقلة والسواني ورائحة الأرض تنهض في كبرياء، وفي أفق التاريخ قرطاجنة وهنبعل، وعقبة الفهري والأغالبة، الحفصيون والمهديون، ابن خلدون والشابي، والزيتونة والصادقية، وأشياء كثيرة تتوهج تحت الضوء بلا انقطاع.
وطن اختصر لاحقا في شخص الحبيب بورقيبة، بنى تونس المعاصرة، استند إلى بعض جوانب التاريخ، لكن الأنا تضخمت لديه مثل البروتستاتا فقطع الطريق على جهود آخرين لا يقلون عنه شأنا ومرتبة في النضال، كانوا معه في الدرب نفسه، طمس التضخم اللعين كفاحهم الذي ظل في الواقع يوازي نضاله أو يفوقه أحيانا. 
ومع ذلك لم يلعن التونسيون تاريخهم، ولم يحتقروا بورقيبة، ولم يعيروه بأصوله الليبية القديمة، ذلك يحدث في بلاد أخرى تحب ثقافة المعايرة والازدراء. 
تونس وليبيا كانتا، وفقا للمصادر التاريخية، أرضا واحدة حتى 1560م فانفصلتا إلى إيالتين، وإلى العام 1918 ظل الأمير إدريس السنوسي يوجه مراسلاته ويبدأها بعبارة «خادم الملة الإسلامية وحاكم إيالتي برقة وطرابلس وتونس»، وبقي البلدان فيهما رائحة واحدة يعبق بها ترابهما المتجاور.
وفي تونس تمددت العائلات والقبائل ذات الأصول الليبية وكذا العكس، تشابهت الأسماء والألقاب، وإضافة إلى بورقيبة هناك الباهي الأدغم، وحمادي بن سالم صهر الأمين باي تونس، وجليلة بكار الممثلة المسرحية الكبيرة، وعلياء ببو المذيعة ومقدمة برامج الأطفال التي حارب جدها فرسان مالطا في طرابلس ثم هاجر إلى تونس، والشيخ عبدالجواد بلقاسم القطروني، ولد في بنغازي العام 1897، استقر في تونس بدءا من العام 1909 وعرف هناك بعبدالجواد البنغازي، كان أحد كبار شيوخ القراء والمقرئين في الزيتونة، توفي ودفن بتونس العام 1958 بعد أن تلقى على يديه العديد من كبار مشايخ التجويد المعاصرين في تونس، وهناك، أقامت عائلات فكيني والناكوع وكويدير وزارم وفحيمة والشويهدي وبوشعالة والكيب وعريقيب... وسواها كثير، وثمة عائلات أيضا حملت الأسماء المتشابهة بينها: المريمي والماجري والقروي وشمام ودغيم والوحيشي والوريمي... وغيرها، ونحن عندنا الكثير من العائلات التي اندمجت في الوطن الليبي وصارت قطعة منه، ثم بعد أيام الهجرات ومعاناة جملة من الليبيين في مناجم قفصة أيام الاحتلالين الفرنسي والإيطالي للبلدين وعلاقات المصير الواحد، تبرز محطات مهمة: بشير فهمي الليبي الذي طور في الأغنية التونسية ونقل إليها الأوزان والألحان الليبية واكتشف صليحة وجعلها تغني «بخنوق بنت المحاميد عيشه،، ريشه بريشه،، وعامين مايكملوش النقيشه»، وعبدالله عبعاب الضابط التونسي في الجيش الليبي بعد الاستقلال العام 1951 والمعلم في مدرسة ضباط الزاوية العسكرية، وبشير عريبي ناظم النشيد الوطني،، يا بلادي بجهادٍ وجلاد، تونس وليبيا علامات متوهجة على الدوام يمكنهما لعب أدوار بالغة الأهمية لشعبيهما وللمنطقة بأسرها، لكننا في البلدين نغلق أعيننا تجاه عدم الاستفادة من التجربة، تظل عوامل الشكوك والتوجس والريبة ناهضة أمام الأقدام والأبصار. لم يحاول البلدان، وإن تمت بعض المحاولات فمصيرها الفشل الباهر، لم تتقدم إلى الأمام خصوصا في الأعوام القريبة. في الخمسينيات وحتى أواسط الستينيات الماضية تلاقت الجهود في توحيد وجهات النظر وسياسة الأمر الواقع ومعرفة كل بلد لإمكاناته وظروفه مع العالم الآخر، وكانا أيضا يؤملان باستمرار ويحلمان نحو وضع أسس بناء «المغرب الكبير». 
في حي باب الأقواس في العاصمة الذي ينضح عراقة وشعبية ولد الباهي الأدغم العام 1913، ورحل في أبريل 1998، ابن باب الأقواس هذا من المناضلين ضد الاحتلال الفرنسي منذ شبابه واعتبر من المحركين للديوان السياسي السري للحزب الحر الدستوري، تعلم في الصادقية ونال دبلومها، كانت من منارات الثقافة والمعرفة والتنوير التونسي ولا تقل مكانة عن الزيتونة، تخرج فيها الكثير من كوادر وأطر تونس الوطنية والإدارية والعلمية، وفيها أيضا تعلم محيي الدين فكيني وكان رفيق دراسة بها في الثلاثينات لأحمد بن صالح، فكيني سيكون لاحقا سفيرا ثم رئيسا لوزراء ليبيا، فيما سيتولى بن صالح وزارة الصحة ثم التصميم وسيقوم بمهمة التعاضديات والرسالة الاشتراكية ثم تمسح الأمور في وجهه، يسجن ويهرب للجزائر.
مثل الأدغم «الزعامة الهادئة»، وناضل مع رجال تونس الأوفياء، سجن ونفي، ودافع عن حقوق بلاده واستقلالها في الأمم المتحدة العام 1952، رجال في تونس من جيله أمثال امحمد شنيق وأحمد المستيري وأحمد التليلي ومحمود الماطري والصادق المقدم وصالح بن يوسف والعديد غيرهم، لم يظفروا كما أسلفت بمكانتهم في التاريخ المعاصر، غطى عليهم بورقيبة بعباءته وحجب عنهم الضوء. في الأشهر الأخيرة صدرت مذكراته، مرفوقة بالوثائق والصور، احتوت على ذكرياته وآرائه وصفحات نضاله دون ادعاء، تناول المراحل التي عاصرها بأمانة ولم يغمط حق أحد، وأشار إلى مواضع الخلل والتصرفات الخاطئة لدى من عاصرهم، تحدث عن مسؤولياته وزيرا للدفاع ورئيسا للحكومة، عن مشاعره الوطنية وحسه القومي ونظرته للعروبة والإسلام والتحديث والمعاصرة والعالم الذي يعيشه البشر وأسباب النهوض. والرجل لم يكن بعيدا عن هذه المشاهد، ظل جزءا منها أو في الغالب أحد صناعها، لمس المواقف مع الجزائر في نضالها وحادثة ساقية سيدي يوسف التي كانت نتيجة لذلك.
ودوره في أحداث سبتمبر 1970، اختارته القمة العربية الطارئة لمهمة صعبة ونجح فيها، وأثارت هذه النجاحات الكثير من المكائد والفخاخ له في قصر قرطاج. والرجل أيضا أصوله ليبية صميمة وعن ذلك يقول: «أني محمد الباهي بن أحمد بن الحاج عمر بن محمد الأدغم وهذا الأخير ينحدر من أحد قبيلة الدغم المستوطنه في ناحية صعيد على ضفة البحر الأحمر وقد تواجد منهم عرشا (كذا) ببلدة يدر بناحية مصراتة من القطر الليبي، انتقل جدي محمد الأدغم مع عشيرته إلى البلاد التونسية في منتصف القرن التاسع عشر بعد اندلاع ثورة سنة 1841، اغتيل على أثرها مصطفى الأدغم أحد أسلافنا على أيدي حاكم طرابلس العثماني علي عشقر باشا بعد أن عثر مكتوب ممضي (كذا) من طرف مصطفى المذكور، يحرض فيه أحد قادة الثورة عبدالجليل سيف النصر حليف المتمرد المعروف غومة المحمودي على حاكم طرابلس». لم ينكر أصوله أو يتجاهلها ولو أن اللبس وقع له في بعض ما ذكر، فالواقع يؤكد أن أصول يدر من الأندلس ثم تشتت العشيرة شرقا وغربا في أغلب البلاد المجاورة حتى وصلت إلى مصر. ولم ينكر أن والدته زهراء بنت أحمد عودة الجزائري ولدت في المدية في جهة مستغانم ثم تزوجها والده، كان جدها من مناصري الأمير عبدالقادر في ثورته على الفرنسيين في الجزائر. ويذكر بأنه أيام النضال حضر إلى طرابلس في مطلع العام 1955 وأقام بها في شارع عمر المختار حتى سبتمبر، وله ذكريات في شاطئ جنزور مع أصدقائه أيام ذلك الصيف. تقابل مع صالح بن يوسف في طرابلس ونسقا في العمل الوطني وأعانه ليبيون في نضاله، منهم الحاج أحمد الكريكشي وابنه محمود، مشيرا إلى أنهما قد مولا وأعطيا الكثير لقضيتنا. ووضعت على ذمة المقاومين التونسيين مزرعة يملكها الحاج أحمد ربانه التونسي لتدريب أولئك المناضلين. وتقابل أيضا خلال وجوده في ليبيا مع بعض أفراد عائلة الأدغم في مصراتة والكيخيا في بنغازي مثل الحاج رشيد الكيخيا.
وتطل خلال السطور ثقافته ومعرفته باللغات واهتمامه بالفنون والحفريات والعمارة. وكان من مؤسسي المعهد الرشيدي صاحب التاريخ المهم في توثيق معالم الفن والمألوف في تونس. وهناك التباس وقع فيه سي الباهي بحكم تشابه الأحداث، فقد ذكر بأن أحمد بن بلة أخبره بأن رجل الأمن التونسي أنقذه من الموت أثناء محاولة اغتياله بأحد الفنادق في القاهرة، وهذا ليس صحيحا، فالمؤكد أن بن بلة تعرض لذلك في فندق اكسيلسيور في طرابلس من قبل أحد عصابة اليد الحمراء الفرنسية، وفشل في ذلك وطاردته قوات الأمن الليبية بقيادة العقيد عبدالحميد بك درنة وأسقطته قتيلا في الحدود مع تونس عندما أراد الهروب بعد ارتكابه المحاولة، بن بلة بنفسه ذكر هذه المحاولة في مذكراته ولم يذكرها على أنها وقعت في القاهرة، لكنه الالتباس والخلط غير المقصود. 
سي الباهي من رجال الدولة الحديثة في تونس، بعد رحيله ظفر فقط مثل غيره بإطلاق اسمه على أحد الشوارع في العاصمة، أدى رسالته ورحل بهدوء وفي تواضع. سيرته السياسية لا تتطابق مع الزعامات «المتشنجة» أو«المفترسة»، التواضع والحكمة لازما مشواره السياسي والشخصي، ورغم ذلك كله لخص تجربته بالقول: «لقد عملنا الكثير في النضال واستكمال السيادة ودعمها وبناء الدولة وبناء مشاريع المستقبل، منها المرأة والشباب والتعليم، ولكننا لم ننجح في إرساء ديمقراطية فعلية تتوج عملنا وترسي مستقبلا مزدهرا لأجيال تونس، فلهذا اعتبرت أن ما فعلناه يمثل رغم النجاحات، عدوا خلف سراب».

وفي هذا تتفق كل المحاولات في بلاد العرب،، إخواني!!