Atwasat

محمود جبريل: رحل منفيا عن أرض الفرص الضائعة

سالم العوكلي الثلاثاء 07 أبريل 2020, 06:59 صباحا
سالم العوكلي

المرة الأولى التي عرفت فيها د. محمود جبريل، أو سمعت به، عندما تابعت حواراً أُجري معه، العام 2006، في برنامج (بلا حدود) في قناة الجزيرة، وفي غمرة ابتهاجي بكل تميز ليبي تابعت تحليلاته الذكية، والمنطلقة من ثقافة واسعة وفكر سياسي يرصد مآزق وتناقضات السياسة العالمية، وتلك الحدوس النبيهة المنطلقة من قدرة على قراءة الوقائع ومآلاتها المتوقعة، وبعدها اطلعت على كتابه (الأمة البدون) الصادر ضمن منشورات مجلة عراجين لصاحبها الكاتب إدريس المسماري رحمه الله، ومن ضمنه مقالته "11 سبتمبر.. الدلالات والتداعيات والعواقب" المنشورة في جريدة الأهرام القاهرية يوم الأربعاء 19 سبتمبر 2001، العدد 41925 ـ بعد أسبوع واحد من الحدث ـ يتطرق إلى توقعاته لتداعيات هذا الحدث الذي كما يقول "سيشكل علامة فاصلة في تاريخ العلاقات الدولية ولسنوات طويلة قادمة".

وسأجرد هنا بعض توقعاته التي كتبها والدخان مازال يتصاعد من ركام برجي التجارة في منهاتن: "ما يتم الإعداد له الآن ليس تصفية أسامة بن لادن وأتباعه، وإنما تصفية الحسابات الحديثة والقديمة مع كل من اتهمته الولايات المتحدة بالإرهاب أو مساندته في يوم من الأيام في شكل عمل عسكري تصفوي لا تقف أمامه حدود أو سيادات دول سواء في أفغانستان أو في العراق أو في ليبيا..... إن الأقدام والقنابل الأمريكية ستطأ أراضي كثيرة في مستقبل الأيام القادمة.... أنظمة كثيرة مرشحة للاختفاء.. ومنظمات كثيرة ستفقد مصداقيتها وشرعيتها على رأسها الأمم المتحدة ذاتها... إن تحالفا بين الصين وكثير من دول العالم الثالث والرابع يلوح في الأفق في الأمد البعيد. من التداعيات المحتملة لتنفيذ مثل هذا المخطط أيضاً تفجر الصراعات الدينية بشكل دموي، ليس على مستوى الدول والحضارات فقط، ولكن على المستوى المحلي داخل كثير من الدول التي تحتوي تركيبتها الديموغرافية طوائف وأقليات دينية.." ويختم مقالته: "تأسيسا على كل الهواجس السابقة، فإن الخريطة الكونية مرشحة لتعديلات وتغييرات عدة قد تكون دموية في أغلبها وذات آثار بعيدة المدى قد تشكل مجرى أحداث تاريخ البشر لعشرات من السنين قادمة".

هذه الهواجس التي لم تراوده، إنما هو من راودها من موقع تخصصه، ليست نبوءة شاعر أو شعوذة منجم، لكنها حدوس تنبع من المعرفة ومن منهج التخصص العلمي مرفودا بذكاء القراءة، وهي هواجس الخبير التي لم تأت من فراغ، فالمقالة نفسها تتطرق إلى العوامل والمعطيات والشواهد التي من المفترض أن تفضي لهذه النتائج.

العام 2007 زارني الصديق، نجيب الحصادي، في درنة، حاملا معه كعادته حقيبته المكتظة بتصورات عن مشاريع ثقافية أو بترجمات جديدة، وفي هذه المرة حدثني عن الاجتماع الذي عقده رئيس مجلس التخطيط الأعلى، د.محمود جبريل، مع بعض الأساتذة والبحاث من مركز البحوث والاستشارات بجامعة قاريونس، لمناقشتهم حول تعاقد المجلس مع المركز لتنفيذ مشروع ليبيا 2025 . طرح جبريل في الاجتماع تصوره كاملا، ليبدأ وقت الأسئلة من الحاضرين: عما إذا كان ثمة ضوء أخضر من السلطة العليا بخصوص هذا المشروع؟ وعما إذا كان له سقف محدد؟. فكان مفاد إجاباته: الضوء الأخضر لم يعد يوجد حتى في إشارات المرور. ملمحاً إلى أنه من الممكن في أي وقت أن يسجن بسبب هذا المشروع أو يُرمى به من حيث أتى، مشيرا إلى أن من يريد تحمل مسؤوليته فليبقَ ومن ليس لديه استعداد فليعتذر، أما بخصوص السقف فقال: أن لا سقف محددا، ومن الممكن الاستعانة بالخبرات الليبية أينما كانت، في الداخل أو الخارج.

انطلق المشروع الذي كنت أحد المتعاونين معه في قطاع العلوم والثقافة، وواجه عدة عراقيلَ وصلت إلى حد التهديد باستعادة زمن الكلاشنكوف من بعض القوى الثورية التي كانت تتهمه بالتآمر على سلطة الشعب. ولأن فكرة الرؤى الاستشرافية جديدة على عقليتنا في التخطيط كنا كثيراً ما نتعثر أو يحدث نوع من الارتباك، وكان لحضور د. جبريل لبعض الجلسات أهمية قصوى في توضيح الكثير من المسارات المطلوبة والآليات المتبعة، وتحول ذاك المشروع، الذي استعان بأكثر من 120 خبيرا وباحثا ليبيا، إلى ورشة عمل حقيقية في فنون التخطيط الحديث الذي يتناغم فيه العلم مع الخيال مع المنهج مع الحلم، لكنه كان يشكك في الإرادة السياسية للتغيير التي كثيرا ما كان جبريل يعتبرها غير متوفرة من منطلق معرفته لسيكولوجية النظام، فكان يؤكد على أن الكرة في ملعب الخبرة الوطنية، وأن هذه المدونة؛ التي مرشح أنها سترفض من قبل السلطة، ستبقى منجزا للضمير العلمي الوطني في أرشيف الأحلام الليبية، وقد يأتي جيل يستفيد منها، وعبر كل ذلك كان حريصا على أن لا يتحول إلى ترس في منظومة النظام، وأن الضمير العلمي يفرض عليه وعلينا أن ننجز ما من شأنه أن يفكر بجدية في مستقبل ليبيا، بما تحويه من طاقات وإمكانات وفرص، بمعزل عن الأيديولوجيا المطروحة أو طبيعة المزاج السياسي الدارج، لأن من طبيعة البحث والتخطيط العلميين أن يتعاملا مع ثوابت أو بنى النهضة التحتية التي تتمثل في أرض غنية ذات موقع مهم وطاقة بشرية فوقها قابلة للتنمية والاستثمار.

أثناء انتفاضة فبراير، التي كان مهندسها السياسي، برز نجم محمود جبريل وسط مزاج سلطوي انعكس على الثقافة الشعبية يزدري التميز والنجومية، واكتسب رغم ذاك شعبية كبيرة كانت وراء الفوز الكاسح للتحالف في أول انتخابات تشريعية، ولأن القذافي أصاب الكثيرين بهذه العدوى فإن الكثير من المنافسين عادوه من هذا المنطلق، بل في حوار مع بعض المحسوبين على النخبة كانوا يعبرون عن توجسهم من "تبجيل الأشخاص"، وأن ليبيا أكبر من الأشخاص. ولا غبار على ذلك، لكن فكرتي في المجادلة كانت، أن لا ندع رهاب (الشخص) الذي عاث في البلد خرابا يجعلنا نتوجس من فكرة الأشخاص الأكفاء الذين من الممكن أن يسهموا في بناء دولة، وإن نجومية الأشخاص أو تميزهم في السياق الديمقراطي يختلف عنه في السياق الاستبدادي، وكنت استشهد بتجارب تنموية كبرى ارتبطت بأشخاص، مثل مهاتير محمد، الذي جعل من ماليزيا إحدى نمور آسيا السبع، ولي كوان يو، أول رئيس وزراء لسنغافورا، الذي نقلها من العالم الثالث إلى العالم الأول، ولن نذهب بعيداً حين نتحدث عن شخصيات قريبة منا، مثل، إدريس السنوسي والشيخ زايد، اللذين أسسا دولتين من عدم على أسس علمية سليمة وإن كان إنجازهما تحت لافتة (الحكم الرشيد) وليس البناء الديمقراطي.

حينما تخطر على بالي الفرص الضائعة اعتبر إحداها حكومة السيد عبد الحميد البكوش في منتصف الستينيات، التي لم تستمر سوى 10 شهور بسبب حمى الشعارات الصادحة وكيد المحيطين به آنذاك، الذين لم يعجبهم وقتها بروز نجمه وعقيدته الليبية الخالصة، ولعل ما حدث لجبريل لا يختلف كثيرا، خصوصا وأن ثمة قواسم مشتركة بين الرجلين، فكلاهما مثقف ، وكلاهما يحمل رؤية إستراتيجية بعيدة المدى لليبيا، وكلاهما منتمٍ لتيار المعرفة بعيدا عن التجاذبات الأيديولوجية، وكلاهما خذلته النخبة.
وداعا محمود، وحتى لو كنت الضحية الليبية الوحيدة لهذا الوباء المقيت فسأعتبر أن كورونا تفشى في ليبيا.