Atwasat

أبراج عاجية و خبيز.

رافد علي السبت 04 أبريل 2020, 02:14 مساء
رافد علي

قرأت مقال الاستاذ عمر الككلي "عند افتقاد الخبز نأكل الغاتوة" الذي استلهم عنوانه من مقولة الملكة الفرنسية مارى أنطوانيت، التي قُتلت مع زوجها الملك وأبنائهما إِبان الثورة الفرنسية، والتي ظلت جملتها أعلاه تستخدم للدلالة على حالة فك الارتباط بالواقع أو لعدم إِدراكه، أو لتبيان أن الاغتراب سيد الحال في القائم والمعاش. القاص عمر الككلي استجمع قواه للرد على مقالتي "كورونا وأدوار مفقودة" التي كتبتها على ضوء كتاب المثقف والسلطة للمرحوم إدوارد سعيد متسائلا فيها عن دور المثقف الليبي أمام فاجعة كورونا، التي تحشر العالم في مثلث الركود والعزلة والموت، واعتبر الككلي أن مقالتي تأتي ضمن "ظاهرة" لـ "مهاجمين شانئين" على المثقفين في ليبيا؛ بكون "هؤلاء الشانئين "لا ينتمون إلى الأدباء و الكُتاب"، واختصرها بأنهم ليسوا من "أصحاب الكتب".

من الواضح أن عمر الككلي لم يقرأ كتاب المثقف والسلطة، وأنه لم يطالع كورونا و أدوار مفقودة بنفسية هادئة، إذ ما أثار حفيظته هو ما حاولت ملامسته كمواطن ليبي يطرح السؤال عن دور المثقف الليبي في مسلسل الأزمات ببلاده، وضمن المضمون المفتوح جداً لمفهوم المثقف، الذي يعرضه إدورد سعيد في مؤلفه المذكور أعلاه، و الذي لم يتبنَّ فيه تعريف الماركسي الإيطالي جرامشي للمثقف كما يتفضل الككلي بمقالته، إذ يذكر إدورد سعيد أن تعريف جوليان بندا للمثقف في كتابه "خيانة المثقف" أنه التعريف الأكثر شهرة في القرن العشرين في معرض استعراضه لأفكار بندا، الذي ذكره إدوارد سعيد في الكتاب أكثر من جرامشي الذي جاء كتقديم افتتاحي مبسط بحكم الميولات اليسارية بين الرجلين ربما، ما لم نقل بحكم ذيوع الصيت لجرامشي الذي قدم المثقف العضوي كتجديد في أوج الفكر الماركسي الذي أضحى أطلالاً وأصناماً اليوم، فالأسبقية في الطرح هي لحساب اليميني بندا الذي نشر خيانة المثقف عام1927، بينما كان جرامشي بالسجن.

وما يعزز حالة عدم الاطلاع على المثقف والسلطة من قبل السيد الككلي هو استفهاماته حول كوني لم أُبيّن من يكون المثقف، فكتاب المثقف والسلطة يوضح بمجرد تصفح سريع للمقدمتين فيه - الأولى للمترجم والثانية للمؤلف- أن وصف المثقف في عالم اليوم أمسى ينطبق حتى على من "نال قدراً بسيطاً من التعليم"، لا كما يتشبت عمر الككلي بحصر وصف المثقف بشكله المبسط، أي لمن هم من "القصاصين والروائين وكتاب المسرح والنقاد والمنظرين الأدبيين و ليسوا من أصحاب الكتب"، وهذا بنظري المتواضع يسقط الحمولة المعاصرة لمفهوم المثقف في عصر العولمة وحرية المعلومات.

فالتمسك بما يحصره الككلي من نقاد للمثقفين يخرجهم من حقل الثقافة وبطريقة قاصرة ومتعسفة، علاوة على بصمهم بالمتأزمين نفسياً من الثقافة والمثقف، وينعتهم بأصحاب النوايا المشكوك فيها كما جاء في آخر مقالته، وهذا فعلا شئ يدعو للدهشة في عالمنا اليوم المنفتح على المفاهيم الأكاديمية وتطورها من خلال تدفق المعلومات وسهولة الاطلاع عليها!. فالإصرار علي الانغلاق على مفهوم المثقف أو التضيق فيه يذكرني بـ "الكبرياء والتحيز" لجون كيري الصادر في تسعنيات القرن الماضي الذي أشار فيه إلى حالة تعالي المثقف أو المفكر أو النخب، وإلحاحها على قيام "أرستقراطية طبيعية" تخلق التميز، وتقيم الحدود عبر الأوصاف والنعوت بين من يذكرهم كيري وبين العامة أو الرجل العادي، في كوكب أضحي اليوم "عالما مسطحا"، و صارت الديمقرطة لكل شئ بما فيها الثقافة، التي لم تستثنها مرحلة ما بعد الحداثة لنسبية ودقة حالة عدم الثبات للمفاهيم والمعايير، ففكرة المثقف اليوم تتصل بحالة الوعي عند الفرد بمن فيهم بسيط التعليم، بما يصقل الموهبة في التعاطي مع قائم الحال حين ممارسة الخطاب المعقول والمهذب في أيٍّ من القضايا. فالعولمة التي تزداد ترسخاً اليوم غيّرت العديد من المفاهيم كالحدود و الجغرافيا وثنائية المكان والزمان والثقافة والمثقف، بما فيها مفهوم الوعي، وأصبح الوعي يُعولم بحد ذاته أيضا.

فمع توسع العولمة اليوم توجب أن يطور الإنسان مداركه وأن يتجاوز وعيه الحد الماضوي لأنه سيكون خارج نطاق الزمن، لأن الزمن يغير المفاهيم للاشياء، حتى وإن جهلنا كلام كبار الساسة والاقتصاد و "أصحاب الكتب" في شتى المجالات، لقد توسع نطاق العولمة وتغيّرت المفاهيم بما فيها المثقف على مستوى اللغات الأكثر انتشارا كالإسبانية لارتفاع عدد الناطقين بها، أو الإنجليزية بسبب التقنية الحديثة، أو حتى في اللغة الصينية التي تفرضها دواعي "البزنس" باعتبار أن الكل يصنع في الصين اليوم.

أما في العربية فيكفي أن حالة تأصيل مصطلح ثقافة والمثقف تعاني من حالة اجترار، إذ صاغه بالقرن الماضي موسى سلامة بروحه التغريبية متجاهلا عن قصد أو بدونه حالة التأصيل العربي للثقافة من خلال الربط بين كلمة فَلاَح واللاتينية culture.. وهنا اقترح المثقفون في العصر الوسيط لجاك لوكوف الصادر بمنتصف القرن الماضي َ لازال يعتبر مرجعاً كلاسيكياً في الخصوص.

أعود فأقول إن اقتران الوعي بالموهبة في ممارسة الثقافة اليوم في العالم المفتوح من شأنه حتما أن يكون خطوة للخروج بمجتمعاتنا العربية من حالة التمترس داخل دور الرعيّة، وغيبوبة الاغتراب البيّن بكل أشكاله، وبما يزيل هيلامان الأبراج العاجية، التي يتوارى فيها المضيقون لمفهوم المثقف، ويناشدون من سواهم بالصبر جلوساً، ويعرضون الخبيز إذا ما أمسي الخبز مسمماً، ويدعون للتقليل من جدوى انتهاز أي "فرصة تاريخية" للتعبير أو المعارضة أو التمرد بعيداً عن روح التأمل بنفس هادئة و بلا ارتجاليات

ماذكرته بمقال كورونا و أدوار مفقودة عن حادثة إقفال مسرح الكشافة في طرابلس، والتنازل عن عرش الركح، لممارسة المسرح في العراء، لم يكن حكراً على أهل المسرح في طرابلس التي يحكمها الخوف والرعب، فلماذا لم يخرج المسرحي في أي مدينة كنا نصفها بالآمانة وقتها، كمدينة طبرق أو في المرج على سبيل المثال فقط، للشارع في حالة تضامن، كون أن المسرح ببنغازي تحديداً كان مشلولاً بسبب عملية الكرامة حينها!! فهل هذه أيضاً رومانسية وسوء نوايا لدعوة مفتوحة للتضامن بين أبناء الشعب الواحد عبر صرح الثقافة ومثقفيها بالمعنى التخصصي أو الضيق!!. أم أن هذا شطح لعضو في جيش افتراضي"أو هرطقات شباب"!!.