Atwasat

غنِ فالوحشة مُرّة

أحمد الفيتوري الثلاثاء 31 مارس 2020, 09:39 صباحا
أحمد الفيتوري

سرّ الوجود
هذا الجرس المكسور مازال يحب الغناء.
الشاعر التشيلي بابلو نيرودا

كنا في مقتبل العمر، لما زُج بنا في السجن، اثنا عشر شابا من كُتاب السرد والشعر، البعض تحت العشرين، التُهمة العمل، على قلب نظام الحكم!، قضينا فترة طويلة في الزنزانات الانفرادية. تذكرت ذلك، في هذه العزلة المتطرفة، زمن الكورونا، لما شاهدت، في الشاشة الصغيرة، الإيطاليين يغنون، وغيرهم يعزف الموسيقى. تذكرت ذلك، خاصة أن هناك في بلدي، من مُصر على توظيف البلاء، بالعزف على آلات الموت، واستغلال المحنة، للاستحواذ على النصر.

كنا في الزنزانات الانفرادية، عزل من التجربة الحياتية، فمنا طلبة، وحتى من عمل، في أول السلم، للوهلة الأولى، بدا أن عزلتنا المتطرفة، اللامعقولة وتُذهب العقل، تُقرفص كلا مع جسده، غابت الروح وتبعثرت الأنفس، الطعام القليل وشح الضوء، هذا زاد مما ألم بنا، والوقت آخر العام، حيث الصقيع لحاف، لا يفيد في محاربته اللحاف، ما منحتنا الإدارة العسكرية، لسجن "بورتا بونيتو" بالعاصمة "طرابلس الغرب، حراس السجن أجلاف، يزجرون من يتبرم.

كنا بحاجة لمبادرة ما، لإحياء همتنا العالية، كأصدقاء هويتهم حينها الثقافة والفن، لما صدح أحدُنا: غَنِّ فالوحشة مُرّة. جهوري الصوت، أول مستجيب لدعوة الغناء: زاي الهوى يا حبيبي، زاي الهوى، أعاد وكرر اللازمة بقوة مستميتة، فتعبت حنجرته وانكتم، قطع السكوت الذي خيم، صوت مماثل لمن عجز: نعيمة ...نعيمة، ينادي محبوبته، ما من دواعي الزج به في هذه القضية، فقد أحبها، وآخر أدعى حبها فرفضته، فهدد المدعي المعشوق بالكيد له، كان عضوا في اللجان الثورية، لجان النظام التي ساهمت في القبض عليه، وعلى ثلة الشعراء والكتاب من زملائه.

كنا نغني ضد العزلة، كل من زنزانته، فاقترح أحدنا، مسابقة في الغناء، بدأ الحماس سيد الموقف، ما شحذ الذاكرة، أجج الرغبة في الفوز، حتى تدخل الحرس، وتهديدهم لمن يغني بالعقاب الوخيم، لم يفلح، فالحماس سيد الموقف، تتالت مسابقات الغناء، ففاز في كل مرة الأكثر حماسا، لأنه الأكثر فاعلية، عللّ بعض المصوتين الأمر، أن الجمال يكمن في الفاعلية، فإن الزهرة، ما لم تثر الحواس، لا تلفت النظر.

كنا نُؤجج حماسنا بالغناء، ما يُؤجج حماسنا للمبادرات، لذا عند الراحة من الغناء، وكل من زنزانته، انخرط في مسابقة الشطرنج، اللاعب يعلن بصوت عال، ثمة حكم يسجل ذلك، أما أدوات اللعبة، فقد صنعت، مما تبقي من لبّ الخبز.

كنا نقيم أمسية شعرية، أغلب الليالي، لكن لم نُقم مسابقة، أتذكر ذلك الآن، كمُشاهد للغناء في زمن الكورونا، مع ملاحظة فارق فادح، أن عُزلتنا أكثر عنفا، فبالإضافة لمنع الزيارة والاختلاط، مُنع الإعلام، طبعا ليس ثمة أي وسائل اتصال، فتنصتنا لراديو الحارس، الصوت قادم من غرفته البعيدة. وتسنى لي مصادقة حارس طيب، فكان بين الحين والأخر، يجلبُ لي نشرة إخبارية تصدرها الدولة، تسمى جزافا "جريدة الفجر الجديد"، من هذا كان إعلام الزنزانة الانفرادية، كسرتُ العزلة، فأخذتُ كل مساء أقرأ نشرة للاخبار، وكما كل إعلام، أدسُ حينا خبرا تفاؤليا، من اختراعاتي، ما بعده سنصطلح عليه بـ "الحمامة الزرقاء"، كما عرفنا من زميل قرأ، أن السجناء السياسيين في كوبا، اصطلحوا ذلك عن الإشاعة التفاؤلية.

كنا حينها في زمن الكوليرا، زمن اللجان الثورية، من المفارقة أن أحدهم، كتب حين ذاك، ما أسماها مجموعة قصصية، تحت عنوان: "الحب في زمن اللجان الثورية"، مستعيرا ذلك من رواية غارسيا ماركيز الشهيرة: "الحب في زمن الكوليرا"، والشيء بالشيء يذكر.

كنا آنذاك نفعل، قول جبران خليل جبران: غَنّ، فالغناء سر الوجود.

الآن ها أن، الوجود في خطر.

محمود جبريل
العقلاني حد النخاع، المتفكر حد العقلانية، أسس النفس بمثارة وجهد، بالعقل والتعقل، عمل بدأب وخشوع، في محراب العلم، لم يكن عجولا البتة، فالأمور لا تؤخذ جزافا، وإن كان المستقبل يبدأ الساعة، فالساعة ستون دقيقة، والدقيقة ستون ثانية، لابد من تمحيص كل الثواني والدقائق، والإلمام بالتفاصيل لا يعني البتة، أن ليس ثمة كلا يجمل المسألة، لهذا تأسس على الدراسة والبحث، يري النقصان في كل ما يحيط، فابتغى الكمال، وككل متفرد، كان في حلقة الجماعة، على بعد بقدر، لترى الصورة كن خارجها، ذا ما عرفه من المعرفة، سرّ وجوده الساطع.

ككل مفكر، كان العارف، أن السهل ممتنع، فكان الجاد في كل مسائله، المختلف، من اختلافه لا يُفسد الود، الصعب عند المسائل الصعبة، من بمستطاعه أن يجمع المختلفين حينا، وحينا ينأى حتى عن النفس، ما أصعب أن تتعقل، المسائل الصعبة المراس، وإن كانت السياسة فن الممكن، فالفكر فن المستحيل، وهو هذا وذاك، ولذا مارس الممكن حينا بالفكر، وحين اختلط عليه الأمر، مارس درس العلم الأول: حين لا يكون الممكن ممكنا، لابد من المستحيل طريقة.

بجدية يحسد عليها، ثابر أن يكون مختلفا، وأن يكون اختلافٌ حوله، في فترة وجيزة، هذا أثناء وهو بجدارة، قد جعل من نفسه محط إجماع، وفي هذا يُذكر بصنوه في الفكر الصادق النيهوم: جامع المختلف عليه. ليس من السهل، أن تكتب النفس بأسلوب: السهل الممتنع.

اهتم كثيرا بما يهتم، لكن في هذا كله، كان المتفكر المُدقق، والغريب أنه بهذا جمع حوله الكثيرين، فبدأبه أن يكون مختلفا، دفع أنفس كثيرة، أن تتفطن إلى أن المسائل صعبة، وأن مراس الصعب العقل، وإن كان للعقل شطحاته، فإنها شطحات عقلانية، لابد من ممارساتها، حتى يتبين الخيط الأبيض من نقيضه.

هذا العقلاني، عند الممارسة شطح كثيرا، فمثلا حين كسب الرهان خسر، العارف بالعلم، أن أقصر الطرق الخط المستقيم، فرس السياسة، حادت به عن طريق العارف، كان حينا حادي العيس، من تأخذه مسارب الأغنيات عن السبيل، لكن في كل هذا لا تبعده المتاهات، عما يستطيع إليه سبيلا: العقلانية التنويرية، أس مآسسه.

كان قد تأسس في محراب العلم كراهب، وكانت السياسة بحاجة المعبد، دون تجربة مؤسسية، خاض غمار التجربة، نجح عند الخطوة الأولى، لكن الطريق طويل ومتشعب ومعقد، ولم يكن ليتراجع، لكن أيضا، إذا كانت المليون خطوة، تبدأ بخطوة، فإنها في الأول، وعند الأخير، مليون خطوة.