Atwasat

العالم ما بعد كورونا

سالم العوكلي الثلاثاء 31 مارس 2020, 09:33 صباحا
سالم العوكلي

كان العالم الأرسطي، وكان عالم ما بعد كوبرنيكوس، وعالم ما بعد نيوتن، وعالم ما بعد إنشتاين، وعالم ما بعد اكتشاف المحرك الكهربائي، ثم الإلكترون.. إلى آخر تلك النقلات المعرفية الجذرية التي تتبعها راصدو سيرة هذا الكوكب الذي تتبدل تصوراتنا حياله وحيال محتواه الحيوي، وكل درجة سلم تصعدها البشرية تفضي بنا إلى إطلالة جديدة وحقائق جديدة، وكل اكتشاف أطاح بأفكار ونظريات سابقة ضمن النهم الإنساني لمعرفة سيرة الأرض وتخمين مستقبلها ومصير سكانها.

لكن ثمة نقلات من نوع آخر، لا تدين لمثل هذه العبقريات الفردية في حقل العلم والمعرفة، لكنها مرتبطة بأحداث عالمية زلزلت الكثير من الثوابت الأخلاقية ووضعت ضمير العالم أمام اختبارات صعبة فيما يخص جدارة الجنس البشري بفتوحاته المعرفية وتحولاته الجذرية التي وُصِفت بالتقدم، ورغم قِدم هذه التحولات التي رافقت حلم الإنسان بسيطرته على الطبيعة وعلى مصيره، لكننا نستطيع أن نبدأ مما نتذكره جيدا، وبتلك الأحداث الطرية القابعة في أرشيفنا البصري حين واكبت أدوات التصوير والتوثيق تلك النقلات:

عالم ما بعد الحرب العالمية الأولى التي فتكت بالملايين في مركز الاكتشافات المعرفية والعلمية التي سبق ذكرها، ومن بعدها رسم المنتصرون عبر اتفاقيات سرية خارطة جديدة للعالم ولمناطق النفوذ، وإنشاء ما سمي عصبة الأمم من أجل قيادة عالم ما بعد الحرب، غير أن هذا المشروع فشل لتقوم بعد عقدين حرب أخرى أكثر ضراوة خرجت من أوربا لتجوب الصحارى النائية والمحيطات البعيدة، ويتشكل عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، حين اجتمع زعماء الدول المنتصرة في يالطا كي يتقاسموا مناطق النفوذ في أوروبا المنهكة في والعالم، ويعاد ترميم عصبة الأمم في منظمة الأمم المتحدة، و أصبحت المقاعد الدائمة للدول المنتصرة في مجلس الأمن هي مجلس إدارة شركة العالم الجديد. وما أفضى إليه هذا التقسيم من حرب باردة بين قطبي العالم الأقوى التي بدأت بتقنيات اجتياح الفضاء الخارجي وتحولت إلى سباق تسلح محموم، حتى انهار أحد القطبين في نهاية الثمانينيات وانقلبت المعادلة الكونية، ليبرز عالم ما بعد انهيار جدار برلين، وانفردت أمريكيا بقيادة هذا العالم مؤججة بنظريات تتحدث عن نهاية التاريخ وانتصار الرأسمالية الحتمي، وفي كل نقلة تاريخية كانت نخبة النخبة في الدول المنتخبة هي التي تضع أسس هذا النظام.

غير أنه مع انطفاء القطب الشرقي اختل التوازن، وبدأ العالم يترنح في ظل وجهة نظر واحدة لمستقبله، أصبحت ذريعة الدولة العظمى للتدخل في شأن أي دولة أخرى، وغدا الدولار؛ المحمي بأساطيل تجوب البحار والمحيطات المتحكم في اقتصادات العالم كله، قادر على فرض العقوبات على أي أمة تخرج عن طاعة الولايات المتحدة. لكن كي يحافظ الملاكم الأمريكي على لياقته فوق حلبة الأرض كان لابد أن يخترع خصما جديدا، هزيلا ونَفَسه قصير، وتوجهت الأنظار صوب رهاب الإسلاموفوبيا بدل رهاب الشيوعية، وخاضت أميركا حروبا عالمية أخرى بحجة مكافحة هذا الإرهاب، الذي استطاع في غفلة من شبكاتها الاستخباراتية، أو بتواطؤ منها، أن يخترق ترسانات أمنها القومي، بخمسة أشخاص من العالم الثالث يحملون سكاكين قطع الزبدة ليدمروا أعلى برجين في منهاتن هما ركيزتا الاقتصاد الأكبر في الدنيا، لينهض ما سمي عالم ما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، عالم عمته الفوضى وهستيريا الانتقام والحروب وتأجيج الإسلاموفوبيا التي أنعشت اليمين والحركات الشعبوية في الدول المهيمنة، فنقلت أحجار جدار برلين المنهار لبناء جدران حول حدودها تمنع سيول المهاجرين الدافقة صوب الضفاف السعيدة. وبعد انقسام بين معسكر شرقي ومعسكر غربي، انقسم العالم إلى شمال وجنوب، وأصبحت المؤشرات السنوية؛ التي تشبه أبراج الحظ، من معدلات نمو وشفافية وسعادة، تحتكرها دول الشمال، والمؤشرات السلبية تتراكم في جنوب الكرة الأرضية الفقير، وغدا النزوح من الجنوب إلى الشمال يشبه زحف الجراد من المناطق الجافة إلى المناطق الرطبة.

يسمي البعض ثورة المعلومات وتقنيات التواصل، أو الثورة الرقمية، الصدمة الرابعة التي يتعرض لها الكوكب برمته، من ناطحات السحاب إلى العشوائيات المتراكمة حول المدن التي تتحكم الخوارزميات في تفاصيل حياتها اليومية. ودار الحديث عن عالم ما بعد هذه الثورة، والذي بدأ يفصح عن نفسه عبر ثورات واحتجاجات عديدة انطلقت من رحم الثورة الرقمية، لكن من جانب آخر تحول اقتصاد العالم عبر هذه الثورة من اقتصاد إنتاج إلى اقتصاد أثيري رقمي زائف، تتحرك فيه مئات المليارات يوميا دون أن تنتج كيلوجرام من القمح أو الذرة، ولأنه اقتصاد افتراضي تعرض لهزات كبرى وأزمات مالية طاحنة، جعلت البعض ينام مليارديرا ليصحو مفلسا، ما أدى إلى حالات انتحار كثيرة، اعتبرها ترامب في خطابه الأخير حول كورونا، التهديد الحقيقي للأمريكيين إذا ما شلَّ رهاب كورونا الحركة في الولايات المتحدة.

يتفشى هذا الوباء في الحياة الواقعية لكن انعكاسه يتفشى مضاعفا في العالم الافتراضي الذي يعيد تكرار الرواية الرسمية لهذا الوباء، وهذه الرواية تتحكم فيها وسائط النخبة العالمية التي تشكل 1% من البشر تتحكم في 99% من مال العالم، وحين يتفشى هذا الفيروس بضراوة في مناطق أكبر ثلاث اقتصادات في العالم، الصين والولايات المتحدة والاتحاد الأوربي، التي تشكل أكثر من ثلثي الناتج العالمي، فثمة أسئلة صعبة تثار حيال المستفيد من هذه الجائحة التي يبدو أنها تهيء لنظام عالمي جديد بشروط جديدة، بعد أن طال النشاز معزوفة العولمة التي تطرب المتحكمين فيها بالأرباح العابرة للحدود فتحولت إلى كابوس بفعل الفيروس الفتاك العابر للحدود بسرعة قياسية. كورونا رفع الغطاء عن عفن رابض تحت كل هذا البريق الرأسمالي ووضع العالم أمام محك خطير، ووضع البشرية التي استسلمت عقودا لخدر نهاية التاريخ أمام مصير جديد وغامض يحتاج إلى نظام عالمي جديد، بعد أن انتهت الحقبة الماضية بـ (جدران تبنى على حدود الأمم، وحرائق غابات الأمازون، وأكبر موجات نزوح إنساني في التاريخ، وأول وباء يتفشى بسرعة قياسية فوق الأرض كلها).

وسواء أكان كوفيد 19 صدفة أو مجندا فسيكون ما بعده تجهيز العالم لنظام اقتصادي جديد بقيادات جديدة، يقوض النشاطات الصغرى لصالح الشركات الكبرى، ويلعب فيه الذكاء الاصطناعي والعملة الرقمية دور المحرك الرئيس لهذا الاقتصاد الذي ستعمل النخبة الذكية المتحكمة في تقنيات الذكاء، وفي ألعاب الخوارزميات على إدارة العالم بما يشبه خيال أورويل منقحا في روايته (1984) الذي لم يخطر على خياله الجامح مراقبة حرارة أجسادنا حين كان يرصد آليات السلطة في مراقبة كل تفصيل في حياة البشر.

هذا الوباء الذي أثبت أن العالم قرية فعلا، وهذا الفيروس الذي مازالت يحيط به الغموض والأسرار سينتج مستقبلا أبطالا كونيين، وليس قوميين، على غرار جوليان أسانج صاحب موقع ويكيليكس، بعد حقبة كان فيها مصير البشرية في ملفات مختوم عليها "سري للغاية".عالم دون قيادة شهدت أجزاء عديدة منه حروبا ضارية.