Atwasat

كتاب «الفاخري» السنوي

محمد عقيلة العمامي الإثنين 23 مارس 2020, 12:55 مساء
محمد عقيلة العمامي

يخبرنا تاريخ الولايات المتحدة أن الرئيس الأمريكي الثلاثين "كالفين كوليدج" - 1923 إلى 1929- هو من عين أول مدير للبرتوكولات في البيت الأبيض سنة 1927، فلقد تصادف أن جلس أول سفير ألماني بعد الحرب العالمية الأولى، وكان أحد مديري مصانع الأسلحة "كروب" إلى جانب زوجة السفير البلجيكي، فرفضت الجلوس بجواره؛ بسبب تاريخه ودور مصانعه في تلك الحرب؛ فكانت ربكة بسبب تغيير أماكن الجلوس. وهكذا تأسست إدارة للبروتوكول في أمريكا، ثم بقية العالم.

وعلق البريطانيون أنه أمر منطقي وجيد، فما دمنا لا نستطيع الدخول جماعة من باب واحد ينبغي ابتكار طريقة تقرر من يدخل أولا. هكذا تأسست البروتوكولات، أو المراسم مثلما تعارف العالم العربي على تسميتها، وأصبحت مهمة للغاية، فنجاح الزيارات الرسمية مؤشر جيد لتأسيس علاقات حسنة، والعكس صحيح، وهي أيضا مناسبة خطيرة لتوصيل رسائل مهمة، قد تكون تحذيرية وغير مباشرة؛ ولعل مراسم استقبال الرئيس التركي في روسيا مؤخرا، لخير دليل على قوة وأهمية البروتوكولات أو المراسم، على الأقل في توصيل رسائل مهمة وإن بدت عفوية وغير رسمية!.

منذ تأسيس دوائر البروتوكولات اتضحت أهميتها في التغلب على المواقف المحرجة، ومفاجآت غير متوقعة، فمثلا وصل دبلوماسي من أمريكا اللاتينية ضيفا على البيت الأبيض ومعه زوجته وعشيقته! ويبدو أنه أمر عادي في بلاده، فما كان من إدارة البروتوكول إلاّ أن حجزت غرفتين في طابقين مختلفين واحدة للزوجة والأخرى للعشيقة! ولكن الأمر قد يختلف كثيرا عندما يصل دبلوماسي مسلم بزوجتين! وهذا ما حدث مع سفير الباكستان لدى الولايات المتحدة الأمريكية، الذي تولى منصبه وأحضر معه زوجتيه، وتفاديا لمغبة حدة صراع "الضرات" الذي لا يعرفه إلاّ من تزوج باثنتين، أو أكثر! اتفق هذا الدبلوماسي "الخبير" مع إدارة البروتكولات الأمريكية في توزيع دعوات الزوجتين للمآدب الرسمية، زوجة لمآدب واشنطن والأخرى لمآدب نيويورك، فهو أيضا ممثل لبلاده في الأمم المتحدة!

وتحرص إدارة البروتوكولات، في ضبط المدعوين من خلال بطاقات الدعوة لمآدب البيت الأبيض إذ تعد برموز سرية تتغير باستمرار حتى يصعب التسلل لهذه المآدب.

ومن مهام أطقم البروتوكول توفير معلومات عامة، ودقيقة عن كل من يجلس بجوار مسئول حتى يتسنى له التحكم في الحديث ومجرياته. وتتولى إدارة البروتوكولات التنبيه على ما ينبغي اتباعه في حفلات الاستقبال الرسمية، وما هي المناسبات التي يقدم خلالها الشاي أو القهوة، أو أية مشروبات أخرى! وأنه يتعين على السيدة المضيفة، مهما ارتفعت مكانتها أن تتولى ملء أقداح القهوة أو الشاي لضيوفها.

ومن المتعارف عليه أن الضيف الرسمي إن شعر أن كرامته قد أهدرت، بسبب طول انتظاره لمضيفه! أو بتخصيص مقعد لا يتناسب ومكانته فذلك يعني أن كرامة الجهة التي يمثلها قد أهدرت، فيحق له إما أن يتوجه إلى المضيف ويصارحه بذلك، أو أنه يقلب صحنه ويرفض تناول الطعام إن كان الأمر خلال مأدبة.

أما الفنادق التي تستقبل الضيوف الرسميين تصدر إليها الأوامر بمراعاة مزاج وطباع كل ضيف، فيعد السرير بطريقة معينة، أو قد تطلى الغرفة بلون الضيف المفضل، وتتولى إدارة البرتوكولات سداد مصاريف الزوار باستثناء أجور المكالمات الهاتفية، وأيضا الإكراميات، والأشياء الأخرى التي قد يقوم بها الضيف في الخفاء!.

هذه المعلومات كانت مما قرأته من كتاب وجدته ضمن مجموعة كتب متخصصة لدى الراحل خليفة الفاخرى، عندما زرته في كوبنهاجن، مطلع سنة 1974 من بعد استقراره كملحق ثقافي بسفارتنا هناك. ولأنني لم انته من قراءته، أصّر أن أخذه معي، لأنه أطلع عليه.

الحقيقة أنه لم يكن هدفي الكتابة عن هذه المراسم، بقدر ما كان هدفي الحديث عن كتاب مهم كان يعده في تلك الفترة، وهو الذي أسماه: "الكتاب السنوي عن دول الشمال" وأرسله إلى طرابلس، عندما كانت لنا وزارة حقيقية للخارجية. ولقد لخص فيه ما يتعين أن يرصده، أو ما يقوم به القسم الثقافي فغطى الفترة من سنة 1974إلى سنة 1976. ولقد تصفحت، فيما بعد، نسخة منه، في مكتبة السفارة.

الكتاب لخص أيضا تاريخ الدنمارك والسويد والنرويج، موضحا أحزابها السياسية، مبرزا أهم ما تناولته الصحافة من مواضيع في ذلك الوقت، منها إشارة واضحة إلى توجهات جهة إعلامية بعينها، وهي التي سخرت، فيما بعد، من رسولنا الكريم، قبل نشرها لرسومها الساخرة.

لقد كتبه بأسلوبه المتميز، وطبعه بنفسه، فلم يكن الكومبيوتر قد استخدم في ذلك الوقت، ولقد خط عنوان غلافه؛ باختصار شديد نفذ أديبنا "جنقي" عملا جيدا متكاملا.

بعد مرور 44 سنة على تصفحه أول مرة في كوبنهاجن، لحق بي هذا الكتاب في القاهرة، فابتهجت به كثيرا! لم أسأل كيف تحصل عليه أخي وصديقي محمد المهدي الفرجانى، ولكنني شكرته في الحال، ممتنا لحرصه على إيصال هذه النسخة الثمينة إلي، فقمت بتجليدها، وبالطبع إعداد نسخة ثانية لتكون في مكتبة الوسط، فهو كتاب دقيق في معلوماته بذل الفاخري جهدا كبيرا في تحقيقه مستندا على مراجع ومعلومات صحفية وتاريخية وتجربة شخصية؛ ولقد ساعد في إعداد بعض مواضيعه عدد من موظفي السفارة الليبية في كوبنهاجن لعل الأستاذ عامر التوغار أبرزهم.

الكتاب مرجع معلوماتي جدير بأن يطبع. والجدير بالذكر أيضا أن الفاخري لم ينسب الكتاب لنفسه، وليس هناك ما يثبت أنه كاتبه سوى توقيعه على العنوان الذي خطه بالتوقيع المتداول، والذي يمهر به رسائله. فهل النسخة التي بعثها إلى مكتبة الخارجية ما زالت موجدة؟ أو هل مازال للخارجية الليبية مكتبة؟