Atwasat

دنيا على قرني ثور

جمعة بوكليب الخميس 12 مارس 2020, 03:41 مساء
جمعة بوكليب

أعتقد أن أجدادنا الأوائل لم يجانبوا الصواب كثيراً، حين جمحت بهم سذاجة خيالهم إلى تصوّر أن الدنيا محمولة على قرني ثور، وتميل حيث يميل. ولأن ذلك الثور، تحديداً، لا يختلف عن غيره من بني جنسه من الثيران، لا يغير من طبيعته، لذلك، تبقت الدنيا على حالها من عدم الاستقرار. فها هو على ما يبدو، منذ بداية العام 2020، وحتى يوم الناس هذا، وهو يعاني من نوبة جنون استثنائية، نسال الله أن يخفف من غلوائها، لطفاً بنا، وبدنيا معلقة منذ الأزل على قرنيه، من هلاك محقق.

قبل أن تبادر، مبتسماً، وتُكذِّبَ ذلك التصور، أو تُشككَ في سلامة تفكير أصحابه، تريّث قليلاً، وألقِ نظرة متأنية على ما يدور حولك من حوادث. وأبادر بأن أقترح عليك، إن كنت في بيتك أن تجلس على أريكة مريحة، وتلتقط جهاز التحكم التلفزيوني، واضغط على أزراره متنقلا من قناة تلفزية إلى أخرى، لمشاهدة نشرات الأخبار. أنا واثق أنك، بعد دقائق قليلة، سوف تعيد النظر في شكوكك، وتبدأ في مراجعة قناعاتك، بل وربما تسارع، مثلي، برفع يديك إلى السماء متضرعاً، وداعياً الله القدير أن يهدّئ من جنون ذلك الثور، كي تهدأ مخاوفك خشية من انهيار الدنيا وسقوطها تحت حوافره.

فيروس كورونا يجوب القارات والبلدان، مخترقاً الحدود، قاطعاً المسافات، عابراً الحواجز الطبيعية والبشرية، منذراً بهلاك محتمل لكل من يرمي به سوء الحظ في طريقه، مُسرّباً إلى النفوس الخوف والرعب أينما ذهب وحلَّ. أينما وليت وجهك تجده أمامك حاضراً في كل نشرة أخبار، في كل القنوات.

إن كنت مقيماً في بلدان حاط بها الفيروس، فأنت مجبر على تفادي وسائل المواصلات العامة تفادياً للإصابة. وإن احتجت لقضاء حاجياتك من سوبر ماركت كما تعودت، فمن الأفضل لك تجنب الخروج، وتضييع وقتك، لأنك لن تجد على أرفف تلك السوق سوى هلع الناس الذين سبقوك ومسحوا كل ما عليه من سلع وبضائع وعادوا بها إلى بيوتهم لتخزينها وانتظار أن يصلهم إعلان من السلطات الرسمية بالقضاء على الفيروس.

ولو حدث وذهبت إلى السوق، فمن حقك أن ينتابك شك في نفسك، وتحسّ، مثلي، بأنك لا تعيش في هذه الدنيا. ذلك أن فراغ الأرفف من السلع، يجعلك، فورياً، تشعر بالارتباك، ويعتريك شعور بالذنب في حق نفسك لعدم قيامك، حتى الآن، بشراء وتخزين ما تحتاجه من سلع ومواد تنظيف وأدوية... إلخ. قد تشعر أنك تأخرت كثيراً، لأن غيرك سبقك، وكان أشطر منك، وأكثر فهما للدنيا، وتعلقا بالحياة، ووعياً بخطورة منعطفاتها الحادة، لذلك بادر بما أملته عليه مخاوف نفس وسواسة.

حين تتعب ضجراً من أخبار الفيروس، حاول أن تنقر آلة التحكم في جهاز تلفزيونك، منتقلا إلى قنوات أخرى. فتمتلئ الشاشة، أمام عينيك، بصور أكثر تقززاً، وأنت تشاهد رجال حرس السواحل اليونانيين، في جزيرة ليبسوس وهم يقلبون، رأساً على عقب، في البحر، قارباً مطاطياً مليئا بمهاجرين، ذكوراً وإناثاً، من كل الأعمار، وصلوا الجزيرة لتوّهم، قادمين من الشاطئ المقابل، هرباً من موت يلاحقهم، وبحثاً عن حياة مراوغة يلاحقونها.

واصل المشاهدة، وسترى كيف يقوم أولئك الحرس بتجميع المهاجرين على الشاطئ ويأمرونهم بخلع ملابسهم في طقس بارد، ثم إعادتهم من حيث أتوا، ولا شيء يحميهم من البرد سوى ما يستر عوراتهم. لا أنصحك بالانتقال من تلك المحطة إلى إدلب في شمال غرب سورية، حيث يتساوى البشر والتراب، وحيث تتفكك الإنسانية، قطعة قطعة، من عناصرها، وتتفسخ. في إدلب لا حاجز، ولا متراس، ولا خندق، ولا حرز، ولا أيقونة، ولا آلهة، تجدي لتوقف موتاً متنطعاً يتخطف البشر بلا مبالاة، في مشاهد حية منقولة عبر وسائل الإعلام.
إلى أين المفر؟

إذا أغضبك ما شاهدت في ليبسوس وغيرها من جزر الإغريق الخالدة، ابحث لنفسك عن قناة أخرى، لكني لا أنصح بمشاهدة ما يحدث لأطفال ونساء وقرى وبلدات اليمن السعيد!! لذا أتمنى لك الانتقال ومشاهدة أخبار في أماكن أخرى، إذا كان لابد لك من متابعة ما يحدث في العالم. لماذا، مثلاً، لا تعرج على أخبار في بلد بعيد نسبياً، مثل تشيلي في أميركا الجنوبية، لتتابع، بشيء من حيادية، آخر ما وصلت إليه أخبار المعارك الضارية بين الشعب وشرطة الحكومة؟ أو آخر أخبار العمليات الانتحارية الجهادية في الجارة تونس؟ أو تتبع ما يرتكب على مقربة منك من مجازر، إن كنت مقيماً في طرابلس الغرب، ولم يصب بيتك بعد بصاروخ عشوائي؟ أو ما يستجد من حوادث جنوباً، وراء حدودنا الصريعة، حيث تنقل نشرات الأخبار صوراً حية لأفراد الفيلق الأجنبي الإسباني وهم يستعدون للذهاب إلى مالي للانضمام إلى نظرائهم من أفراد الفيلق الأجنبي الفرنسي، والقوات الخاصة البريطانية، لمطاردة أشباح في صحراء مترامية الأطراف، لا همّ لها سوى القتل والنهب والخطف والحرق والتدمير.

لا داعي لأن تحاول تغيير القناة منتقلا إلى أخرى، فكل القنوات في الهمّ شرقُ، وكلنا، أهل هذه الدنيا الفانية، معلق مصيرنا ومصيرها بما قد ترتكبه حماقة ثور، يحملنا على قرنيه، وأصيب، منذ بداية العام، بنوبة جنون.