Atwasat

مثلث برمودا في الشرق الأوسط

سالم العوكلي الثلاثاء 03 مارس 2020, 01:06 مساء
سالم العوكلي

كل المناطق التي يحررها الجيش السوري في إدلب وريف حما وريف حلب تظهر في شوارعها لافتات سوداء تحمل شعارات معادية للديمقراطية والدولة المدنية، ومنها "الديمقراطية شِرْك" "الديمقراطية دين الغرب" ، "العلمانية كفر". ورغم ذلك يسمي النظام التركي من يسيطرون على هذه المناطق ويخطون هذه اللافتات "المعارضة" ويسمي مسلحيهم "الجيش الوطني"، والمفارق أن الفصيل الوحيد أو الحركة التي تؤمن بالديمقراطية وتسمي نفسها "قوات سوريا الديمقراطية" يعتبرها النظام التركي جماعات إرهابية.

وبالطبع هذا ليس غريبا عن حاكم يعتبر نفسه زعيم تنظيم الأخوان المسلمين الأممي، ويتصرف كمرشد أعلى، ومسؤول عن جماعات الإسلام السياسي في كل مكان، وحين أقول الإسلام السياسي أعني الطيف الواسع الممتد من جماعة الأخوان إلى داعش آخر نسخة منه، وهذا الالتزام الأردوجاني، أو التزام حزب العدالة والتنمية، ما يجعله يسعى لحماية هذه الجماعات المتشددة في إدلب، وما يجعله يشن حربه الإعلامية والدبلوماسية على مصر بعد أن خرج الأخوان من المشهد السياسي وفقدوا حتى التعاطف الشعبي، وما يجعله يستقبل زعيم الأخوان في تونس الغنوشي ويسبب له إحراجا كبيرا مع النخبة والشارع التونسي، وما يجعله يحاول أن ينقذ ما يمكن إنقاذه من دولة الإسلامويين العميقة في الجزائر، وما يجعله يبعث بأسلحته وخبرائه ومرتزقته من إرهابيي إدلب إلى طربلس لحماية جماعة الأخوان الليبية وأحلافها من الجماعات الأخرى، ومبررا تدخله بأنه يدعم الحكومة المعترف بها المجتمع الدولي ويحمي الدولة المدنية التي قوضها حتى في تركيا نفسها، مع أنه في سوريا يقف ضد ويحارب الحكومة المعترف بها دوليا في دمشق والتي مازالت ممثلة في هيأة الأمم المتحدة.

لعل ما يملكه أردوجان من قوة هو كون تركيا عضوا في حلف الناتو، وهو الأمر الذي أوصل تنظيم الأخوان لأن يكون جزءا من هذا الحلف في فترة حكم حزبه العدالة والتنمية، ما يُلزم أمريكا بأن تصرح بدعمها لتركيا في حرب إدلب رغم الكراهية المتزايدة للجمهوريين لشخصية أردوجان وسياساته التي لا تخفي عداءها العثماني للغرب كله.

وبالتالي فإن سوريا تمثل الآن مسرحا لصراع حلفين مثلما حدث في الحرب العالمية الثانية: تجتاح تركيا الأراضي السورية وتقصف إسرائيل أهدافا داخل سوريا، والحالتان برعاية ودعم أمريكي، فهو حلف مكون من تركيا وإسرائيل وأمريكيا بمساندة الجماعات المتشددة على الأرض التي تخط اللافتات المكفرة للديمقراطية، والتي ذاب فيها ما سمي سابقا الجيش الحر. وحلف ثانٍ يتشكل من روسيا وإيران لدعم الحكومة السورية في دمشق التي مازالت تعتبر الحكومة الشرعية المعترف بها دوليا والتي تعتبر تدخل روسيا وإيران قانونيا باعتباره طلبا منها يأتي ضمن اتفاقيات دفاع مشترك قديمة، بينما تواجد القوات الأمريكية والتركية والاعتداءات الإسرائيلية كلها ضد الشرعية والقانون الدولي.

من جانب آخر فرغم وجود تركيا وإيران في تحالفين متضادين إلا أن ثمة علاقة بينهما تسير على قدم وساق، ويشكل النظامان التركي والإيراني أساس كل الاضطرابات والصراعات التي تحدث في منطقة الشرق الأوسط، وهو صراع تغذيه أحلام إمبراطوريتين أصبحتا في ذمة التاريخ، تحاول إحداهما أن تعيد أمجاد الإمبراطورية العثمانية وتحاول الثانية أن تصدر ثورتها الشيعية لكل المنطقة، ويأتي هذا العبث بسلام المنطقة واستقرارها بعد عقود من الاضطرابات التي سببها وجود الكيان الصهيوني في المنطقة، والذي أصبح يخفت أمام هذه الأخطار الجديدة التي بدأت ترغم بعض الأنظمة العربية على فكرة التطبيع مع إسرائيل باعتبارها أقل الأخطار في الوقت الراهن.

إيران وتركيا دولتان تتمتعان بكل مظاهر الديمقراطية حسب ما يتذوقها الغرب، أحزاب وانتخابات وتداول سلطة شكلي، لكنهما محكومتان الآن بمحتوى كامل للدولة الدينية بعد سنوات من تقويض الدولة المدنية العميقة، وسجونهما تعج بسجناء الرأي المخالف، وكلاهما يسعى لتصدير هذا المضمون الديني لطبيعة الحكم إلى المحيط، يعتبر أردوجان زعيم الأمة السنية وخامنئي زعيم الأمة الشيعية، بينما إسرائيل التي تناصب إيران العداء وتربطها مع تركيا علاقات إستراتيجية تعمل على إرساء الدولة اليهودية، وتضرب أذرع الدولة الشيعية في سوريا ولبنان لأن لا علاقات حتى الآن تربط إيران بإسرائيل. تستخدم كل من تركيا وإيران حلفاءهما الأيديولوجيين أو الجينيين في المنطقة لتحقيق أهداف متشابهة، بينما إسرائيل تنتهز الفرصة للتطبيع مع النظم المذعورة التي أصبحت ترى في عدوها الأول لعقود حليفا ممكنا ضد المد العثماني والفارسي. وفي مثلث برمودا هذا تضيع الأمة العربية بسنتها وشيعتها ومسيحييها وتصارع خوفا من أن يبتلعها يوما هذا المثلث المخيف مثلما ابتلعها يوما ثالوث الغرب غير المقدس: فرنسا وبريطانيا وإيطاليا.