Atwasat

المركزية الأوربية وتأريخ الفلسفة

عمر أبو القاسم الككلي الأحد 01 مارس 2020, 01:34 مساء
عمر أبو القاسم الككلي

جورج طرابيشي من أهم من بحثوا، في العقود القليلة الماضية، في التراث العربي الإسلامي بعمق وتبحر وموضوعية، وقد كرس جهده في هذا المجال على مدى حوالي ثلاثة عقود وأنتج في ذلك عدة كتب، أهمها كتبه الخمسة التي اختار لها عنوانا جامعا هو "نقد نقد العقل العربي" ردا على مشروع الدكتور محمد عابد الجابري، الذي يضمه عنوان جامع هو الآخر، وهو "نقد العقل العربي".

وسنقتصر هنا على نقطتين تمثلان قاعدة من قواعد المنطلق الفكري لجورج طرابيشي. هما الموقف من المركزية الأوربية، والغربية عموما، وما ترتب عنها من موقف عنصري لدى بعض المستشرقين الغربيين.

"... وابتداء من القرن التاسع عشر، قرن تمخض المركزية الإثنية، الأوربية، بات تاريخ الفلسفة مركزا لصراع أنتربولوجي. فالحضارة الأوربية الغربية، التي قرأت نفسها حضارة عقل مطلق، أعادت على ضوء هذه القراءة النرجسية قراءة تاريخ الفلسفة. وقد كانت النقطة المركزية في إعادة القراءة هذه ما لا نتردد في أن نسميه تغريب Occidentalisation العقل اليوناني بوصفه العقل المؤسس للحظة ميلاد الفلسفة" (1: 13)*.

فجورج طرابيشي يرى أن ما يسمى بالعقل اليوناني نشأ تاريخيا وجغرافيا في الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، ولكن "جرى فصله عن منبعه وروافده وحُوِّل مجراه، في نوع من مصادرة يعز مثيلها في تاريخ الأنتروبولوجيا الحضارية، نحو الغرب الأوربي الذي لم يسهم في تغذيته – في حينه – بقطرة واحدة". وهو يرى أن عملية التحويل هذه قد "أملتها الاستيهامات الرغبية للمركزية الإثنية الأوربية" (1: 13- 14). ويرى أيضا أن "الفلسفة اليونانية... ما كانت يونانية، بالمعنى الإثني للكلمة، بقدر ما كانت مكتوبة باليونانية" (1: 15). ذلك "أن أكثر الفلاسفة والعلماء الموصوفين بأنهم يونانيون ما كانوا يونانيين ولا من أهالي أثينا وشبه جزيرة الأتيكي، وأن أثينا نفسها لم تنجب سوى فيلسوفين اثنين (سقراط وأفلاطون)" (1: 16). وعلى هذا الأساس يقرر طرابيشي أن "مفهوم ‘العقل اليوناني‘ يبدو لنا غير مشروع وغير مقبول إبستمولوجيا إلا أن يتم تحديده بدقة" (2: 128) ويستدرك جورج طرابيشي أنه ليس المقصود من إنكار "هذا التغريب للعقل اليوناني ليس هو ‘تشريقه‘. فالتشريق لن يكون في أحسن الأحوال إلا تعبيرا عن مركزية إثنية مضادة" (2: 144). أي أن الاعتراض هنا على أية مركزية إثنية.

وينبه إلى أن "نهر الفلسفة اليونانية، الذي انتهى فعليا إلى أن يصب في المجرى الأوربي الغربي، ابتداء من القرن الثاني عشر، كان قبل ذلك قد مر بـ ‘تحويلة‘ شرق أوسطية لا سبيل إلى المماراة فيها: الحضارة العربية الإسلامية التي كانت هي الأخرى – مع استطالتها الفارسية – حضارة فلسفة، في مظهر من مظاهرها على الأقل" (1: 14).

ولكن، يقرر طرابيشي، جرى إغفال هذه التحويلة من الغربيين في تواريخ الفلسفة المتداولة، أو، وهذا أدهى، إنكارها والطعن في حقيقتها.

فعلى صعيد الإغفال يورد طرابيشي مثال المستشرق غولدزيهر الذي لم يشر في دراسة نشرها سنة 1915 بعنوان "مواقف أهل السنة القدماء بإزاء علوم الأوائل" إلى وجود الفلسفة العربية الإسلامية نفسها. "فكل ما حظي منه هذا الوجود هو محض إشارة مقتضبة في مطلع مقالته إلى أن ‘علوم الأوائل‘ – وهي على حد تعريفه ‘العلوم التي نفذت إلى البيئة العربية الإسلامية بتأثير المؤلفات المأخوذة عن الكتب اليونانية‘ – لقيت، عناية كبيرة منذ القرن الثاني للهجرة في البيئات الدينية الإسلامية – عناية حث عليها الخلفاء العباسيون وشملوها برعايتهم‘" (1: 72).

أما على صعيد الإنكار فـ "أبرز من تصدى لمهمة الإنكار هذه هو بلا أدنى شك إرنست رينان (1823- 1892)، أحد أكبر معماريي المركزية الإثنية الأوربية وصائغ أسطورة تفوق الجنس الآري ودونية الجنس السامي في القرن التاسع عشر" (1: 14).

يأتي كتاب طرابيشي هذا ردا على طرح د. محمد عابد الجابري في كتابه "تكوين العقل العربي" لرؤية يعتبرها طرابيشي مانوية "لمسيحية عقلانية منفتحة على الفلسفة ولإسلام منغلق دونها وبالتالي غائب عنه ‘العقل الكوني‘" (1: 9). وهو يرى أن صاحب هذه الرؤية [الجابري] "يتبنى أو يعيد، لحسابه الخاص، إنتاج ذلك الشق من الأيديولوجيا الاستشراقية الذي ما فتيء يسعى، في سياق المركزية الإثنية الأوربية، إلى تكريس وعي تاريخي كاذب، فحواه أن المسيحية النازحة غربا انفتحت على ما انغلق دونه الإسلام ‘الآسيوي‘، فكان تقدمها [المسيحية، كان] في ظل الحضور ‘الدائم‘ للعقل الكوني، بينما كان تأخر الإسلام في ظل غياب هذا العقل" (1: 9).

1) جورج طرابيشي، مصائر الفلسفة بين المسيحية والإسلام. دار الساقي، بيروت- لبنان، ط 2، 2014.

2) جورج طرابيشي، نظرية العقل، دار الساقي، بيروت- لبنان، ط4، 2011.