Atwasat

الشورى ومنافي الفكر

رافد علي الخميس 27 فبراير 2020, 01:35 مساء
رافد علي

كان لاختيار الصحابي عثمان بن عفان خليفة بعد الفاروق عمر عبر نظام الشورى ميل كبير من سادة القوم بالمدينة المنورة للبحبوحة والارتخاء، بعد سنوات من الانضباط والصرامة والشدة، التي اتسمت بها شخصية عمر بن الخطاب وإدارته. الخليفة عثمان رغم باعه التجاري، إلا أنه كان منغلقا في تسييره للدولة على أسس المحاباة الأسرية وبطريقة مفرطة، لدرجة أن حكام الولايات كلهم كانوا من أقربائه الذين كثرت الشكوى منهم، ولم يتعرضوا للعقاب. كان أسلوب «اللامركزية» في إدارة عثمان سببا في إطلاق يد الولاة في كل شيء، خصوصا غير الأكفاء منهم، كما في الكوفة ومصر، وكان كلما تجددت الشكوى منهم حاول دائما الاعتماد على الإغراء المادي للترضية لا لوضع حلول.

باختصار عهد عثمان لم يكن حكما رشيدا بالمفهوم السياسي الشائع اليوم على الأقل، ولا يمكن اعتباره حكما نظيفا مقارنة مع فترة حكم الصديق والفاروق. وتبين الأحداث التاريخية مدى تسرع أصحاب الشورى في اختيار عثمان بلا تمحيص في شخصيته - كإداري- ضمن اللائحة القصيرة التي اسماها الفاروق كخلفاء له؛ بقدر ما كانت حالة متسرعة لرفع كاهل سنوات عمر المنضبطة، وسعيا منهم للخروج من سياسة التقشف الشديدة رغم انتفاخ خزائن بيوت المال.

عملية قتل عثمان كانت عملا شائنا تاريخيا ولا ريب، ولكنها أثبتت عدم وجود صمام أمان سياسي لمبدأ الشورى يتيح الرقابة والمساءلة والعزل. لقد أمست الشورى كرمز في غياهب قصية فكريا عن معنى ممارسة المشاركة الحقيقية في الحكم وصنع القرار، فلقد أضحت مقتصرة على الاختيار والتعيين النخبوي للخليفة بحصانة مفتوحة رغم انفتاح بعض الخلفاء على قضية التنحي والعزل كما فعل أبوبكر وعمر بن عبدالعزيز في أولى خطاباتهما كخلفاء، ليأتي عهد الصحابي علي بن أبي طالب وكانت الولاءات قد تعزز رجوعها مجددا لأصلها القبلي والمالي، وانتشرت فيها التحزبات المبنية على شخصنة الأحوال وشيطنتها، فما فعلته السيدة عائشة في بادئ أمر الفتنة الأولى يعد مثالا تاريخيا جيدا هنا إذ تحزبت ضد علي رضي الله عنه لصالح معاوية ورحلت للكوفة تاركة المدينة لحفصة بنت الخطاب. حالة الشقاق الأهلي في تلك الحقبة المسكوت عن تفاصيلها تاريخيا جاءت تحصيل حاصل لتراكمات اجتماعية وسياسية ومالية عاشها المجتمع المسلم وفق معطيات حكامه حتما، وكانت نتيجة لقصور في تطور مفهوم الشورى في عهد السلف ذاتهم الذي ما زلنا نخشى انتقادهم بموضوعية وذهن مفتوح. ففي تلك الحقبة المقدسة سلفيا، العامة من الناس لم يكن لهم صوت إلا حين المبايعات. ففي تنصيب الصحابي أبوبكر كانت الناس تترقب خارج سقيفة بني ساعدة حتى أتاهم الخبر بأن الصديق قد نال الخلافة بأسلوب «فلتة» كما صرح عمر بن الخطاب. عمر بن الخطاب ذاته جاء للخلافة بتوصية من الصديق نفسه الذي خشي من «فلتة» أخرى.

ابن خلدون في مقدمته عاب كثيرا نظام الحكم العربي وانتقد شديدا المجتمع العربي كونه مجتمعا يقدس العصبية ويرتكزها بشؤون حياته، ولم يشر في أطروحته الشهيرة المعروفة اختصارا بـ«علم العمران» إلى من أرهص فكريا، أو أعمق فكريا في مفهوم الشورى، بل إن صاحب المقدمة لم يشر إلى حالة غفلان الشورى بالمطلق ضمن حملة انتقاده في معالجة ظاهرتي الحكم والمجتمع بالبلاد في حينه إن جاز التعبير. فهو تحدث عنها ضمن «نظرية الإمامة» شروطا وتعيينا مبرزا ضرورتها للعمران البشري كونها عامل ارتكاز. فأنظمة الحكم في الإسلام بعد الفتنة تحولت إلى الملكية الوراثية رغما من أن صوتا معتزليا «تطرف فكريا» في مفهوم الشورى بحيث ألغى ضرورة وجود الإمام للأمة طالما أن المجتمع استقرت أموره تسييريا بمفهوم مؤسسي كما نفهم اليوم. كان المعتزلي الأصم خير مثال على ذلك.

الخليفة عمر بن عبدالعزيز، الملقب بخامس الخلفاء الراشدين، جاء سليلا لأسرة توارثت السلطة، ورغم عدله المشهود له، يسجل عليه التاريخ أنه لم يلتفت لقضية الشورى إلا حين تتويجه ملكا وانحصرت الشورى عنده في «الاستشارة» من حاشيته المعروفة تاريخيا بمجلس العشرة. ورغم شغفه بالعلم منذ صباه، فلا يسجل له التاريخ ابتكارية في شورى اختيار الخليفة لا إجرائيا ولا نوعيا، مما يؤكد أن الشورى إسلاميا بعهد التابعين وتابعي التابعين أمست من القضايا اللامفكر فيها بالمطلق، بل انحصر كل الاهتمام في البيعة كعملية إجرائية نوعية تمنح للأقوى ليصعد عرش الدولة. فالخليفة عمر بن عبد العزيز كان همه في تشكيل مجلس شورته بعد أن تمت البيعة له حضورا وغيابا بمناطق مختلفة من دولته المترامية الأطراف؛ بقي همه هو وازعه الشخصي من قضية العدل، ولم يفكر ليبني «الشورى» بنيويا.

ففي خطاب تكوين مجلس العشرة الذي مارس «الاستشارة» والنصح له في قضايا «شؤون الرعية والولاة» أكثر من ممارسة شؤون السياسة، نجده قد أسس بشكل غير مؤسسي بالشكل الذي كان معروفا وفق الحضارة اليونانية تطبيقا. قال عمر عبدالعزيز في خطاب إعلان مجلس شورته:

«إني دعوتكم لأمر تُؤجَرون عليه وتكونون فيه أعوانًا على الحق، إني لا أريد أن أقطع أمرًا إلا برأيكم، أو برأي من حضر منكم، فإن رأيتم أحدًا يتعدَّى أو بلغكم عن عامل لي ظلامة، فأحرِّج اللهَ على من بلغه ذلك إلا أبلغني» . د. راغب السرجاني. موقع Islamicstory.com.

من خلال النص أعلاه يتضح أن النصاب لانعقاد المظالم ليس قضية نوعية، كما يشير إلى أن القضية ليست تكليفا منتظما ودوريا، ولربما تشير لحالة عدم تفرغ كامل للأعضاء بمجلس العشرة. ويبدو كل هذا جليا في قوله «.. برأيكم، أو برأي من حضر منكم...».

الشوكاني بكتابه (فتح القدير) يعتبر أن الشورى تمنح العزم بعد التوكل في دلالة واضحة للدور الاستشاري. بمعني أن الحالة هنا تكون مشابهة لمجلس تخصيص مصلحة النظام في جمهورية إيران اليوم، والمعني جدا بغربلة الأشياء بحس استراتيجي معاصر. وطالما أننا بصدد إيران، وجب الذكر أن قيام النظام «الديمقراطي» الإسلامي بإيران على أساس خليط بين فكرة الشورى واقتباس نمط تأسيسي كنائسي كان معتمدا بالكنيسة الأوروبية، وأفكار ديمقراطية حديثة، وهذا التمازج الإيراني ما هو إلا دليل على حالة العوز الرهيب إسلاميا للتنظير للشورى ذاتها. لقد انشغل فقهاؤنا في شرعنة الشورى عبر الإمامة والمبايعة دون فتح أفق تنظيمي لتطويرها كأداة تسيير للدولة ومؤسساتها الرقابية رغم بزوع إرهاصات الطبقة المتعلمة والمثقفة للحاجة في الشروع بعصر التدوين، الذي يسجل عليه أكاديميا اليوم العديد من الملاحظات السلبية تكوينا كونه يشكل مرجعيتنا الفكرية عربيا خصوصا وإسلاميا من حيث التعميم.

عاد الحكم للأمويين بعد وفاة الخليفة الخامس وشرعت الشورى تتراجع في تاريخنا أمام الاستبداد والطغيان الملكي المطلق والوراثي القائم على الأسرة الحاكمة والقبيلة كسند اجتماعي -نسبا ومصاهرة- في تحالف سياسي يكشف عن نفسه بلا أي مخاتلات. وبقيت الشورى حبيسة الآية الكريمة في الوقت الذي اعتبرت مفاهيم «الديمقراطية» في الفكر اليوناني من المحظورات كونها من فكر الأوائل، التي جاء الإمام حجة الإسلام الغزالي ليقطع أي صلة بهذا الفكر وإرهاصاته المبكرة، مما عرقل كثيرا تطور مفهوم الشورى إسلاميا، ولتتعزز صورة الحاكم في البلاد المسلمة كونه ملكا متوجا وسليل قريش. لقد فشل المسلمون تاريخيا في بناء صرح شوراهم ضمن رحلة طويلة من الجمود والتناسي المقصود للرمز القرآني الذي تأتي الشورى في خضمه. لقد تراجع المسلمون لأنهم تركوا القرآن واعتمدوا على التفاسير وتفاسير التفاسير، ودونما الإدراك أن هذه التفاسير الاجتهادية قد غابت عنها أشياء عديدة بحكم اللحظة والزمن، وأنها تحوي أحيانا مواقفَ متعسفة من متطلبات باتت حضارية. لا شك أن أغلالنا ليست عصرية وحسب، طالما أننا ما زلنا نخشى ماضينا ونكابر عن مواجهته، بل ونتكاسل عن فتح حالة حوار معه لتخصيص علتنا بزمننا المأزوم بنا حاضرا، وبكل إرثنا المهزوز في انهزامية مفتوحة.