Atwasat

انتظارُ الأمل

جمعة بوكليب الخميس 27 فبراير 2020, 01:06 مساء
جمعة بوكليب

أملُ الليبيين في وصول سفينة ثورتهم 17 فبراير 2011 إلى مرافئ الأمن والسلام والاستقرار يزداد، يوماً تلو آخر، تعقيداً، ويزدادون هم توتراً وقلقاً وخوفاً على أنفسهم وعلى مستقبل بلادهم. فالسفينة التي رفعت مرساتها، وغادرت مبحرة مرفأها، منذ تسع سنوات، محمّلة بهم وبأمانيهم، في طريقها إلى مستقبل أفضل، على ساحل مختلف، وبشواطئ، كما يتمنون وحلموا، مبهجة، لم تواتها، للأسف، ما اشتهته وأملته من رياح مواتية. لذلك، تورطت، طوال السنين التسع، في عرض البحر، بكامل حمولتها، تواجه عدوانية وهمجية رياح معاكسة، وتصارع دسائس ومكائد وتقلّبات أمواج صعبة. فتعذّرت عليها العودة إلى ما تركت وراءها من شاطئ ومرفأ قديم، واستحال عليها الوصول إلى شاطئ ومرفأ آخر، جديد وآمن.

الغريب أن ركاب السفينة، على اختلافهم، رغم طول الرحلة، ومشاقها وشدة المعاناة والتعب، ما زالوا حريصين على الاحتفال سنوياً، في عرض بحر بأمواج هادرة، بذكرى انطلاق سفينتهم، وما زالوا يؤملون، بوصولها، وهم على متنها، حتماً، ذات يوم، إلى برّ أمان!

تمسّكهم بأمل مراوغ، هو آخر ما تبقى لديهم من سلاح في وجه ما يعترضهم من رياح معادية، وما يواجهون ويصارعون من أمواج وحظوظ معاكسة لأماني قلوبهم، ولمستقبل بلادهم. وهم بما أكسبتهم تجربة الإبحار الطويل، من خبرات وتجارب، صاروا يعرفون أن الأمل، الذي يتمسكون به، شيء خطير. ويدركون، في نفس الوقت، أن الأخطر والأسوأ أن يتركوه يفلت ويضيع من بين أياديهم، ويفتقدونه من حنايا قلوبهم، وبذلك يهمد منطفئاً ما بقي متقداً من جمر إرادتهم.

ما يثير الحيرة، هو أن ما تواجهه السفينة الليبية من أخطار محدقة، وعواصف كاسرة، ليس خافياً لا على ركابها، ولا على غيرهم من حكومات الدول المجاورة منها والبعيدة. وبدلاً من الإسراع بمدّ يد العون والمساعدة، ظلوا كلهم، الجيران والأشقاء والأغراب، يراقبون السفينة المكابدة، من بعيد، تتقاذفها الأمواج، غير مكترثين بما قد تواجهه من احتمالات خطرة، وبما يحدث فوق سطحها من معاناة لركابها، وما يجري، في أروقتها، من انقسام وتنافس وتناحر بين ربابنة عدة، يتقاتلون على أحقية الإمساك بدفّتها، رغم علمنا وعلمهم بعدم وجود ربان واحد، من بينهم، مؤهل لقيادتها، وقادر على الخروج بها من دوامات الخطر.

الذين شاهدوا احتفالات الليبيين، في الأسبوع الماضي، بالعيد التاسع للثورة لا يمكنهم، بأي حال، وتحت أي ظروف مهما تعقدت، تجاهل ما شهده ميدان الشهداء، في العاصمة طرابلس، من إصرار وحماس على احتفال الناس، رغم شدة المعاناة والعذاب، بثورة خلّصتهم من قيود نظام مستبد أذاقهم الأمرّين، طيلة أربعة عقود مؤلمة ومعتمة.

الحشود التي ملأت ساحة ميدان الشهداء، في طرابلس، وغيرها من ساحات الميادين في مدن ليبيا، جاءوا من كل الأرجاء والمناطق والانحاء، ليس فقط للاحتفال وإقامة الأفراح، بل أيضاً ليرسلوا برسائل عديدة إلى عالم يدركون أنه أدار ظهره لهم. أولها ليعلنوا تمسكهم بثورة 17 فبراير، وثانيها ليؤكدوا انحيازهم إلى الأمل بحياة أفضل، وثالثها ليلقوا بكامل أثقالهم، في مرة واحدة، وعلناً، على كفة حركة تاريخ يدركون تمام الإدراك أنه لا يعرف سوى السير للأمام، وإن كان، أحياناً، بخط ملتويا، صعوداً وهبوطاً.

تسعُ سنوات، بحلوها ومرّها، مرّت على انبثاق الثورة، والتخلص من أدران استبداد بغيض. تسعُ شمعات مضيئةٌ، رغم ما يضرب من حولنا من حصار وتجاهل، حملناها في قلوبنا، لتنير لنا الدروب، وليرانا الآخرون، لكي يعرفوا أننا ما زلنا أحياء، وما زلنا مُصرّين على تحقيق حلمنا، وما زلنا نواصل المسير قدماً نحو نهار أجمل، وغد أكثر إشراقاً ودفئاً.

تسعُ أمنيات، علقناها كورود، بفخر وفرح، كابتهالات، على صدر وطن كان، على مرمى حصاة من حلم التحقق، ثم دارت به وبنا الدوائر، وتلاعب به وبنا الوقت، وحاصرتنا معاً رياح ماكرة، فانتهى محتاراً، مشرداً، ومعلقاً كسؤال في فضاء بين أرض ترعبه نيرانها وأحقادها، وسماء بعيدة، لا قدرة له على لمس حتى ما تدلّى مقترباً من ظلال أغصانها.
لكننا سننتظره.