Atwasat

مرزق.. قوافل الفن والتاريخ

سالم الكبتي الأربعاء 26 فبراير 2020, 01:21 مساء
سالم الكبتي

مرزق. دولة أولاد إمحمد فى فزان. عاصمة الجنوب فى زمن الترك التي ظلت عيون الرحالة والجواسيس والقناصل تمتد إليها. تستكشف وتسجل وتكتب التقارير بلا انقطاع. حواف الصحراء والعائلات من أهل البلدة تلتقي هناك فى السوق وفى السوانى. بعضها أصوله من أوجله وهون وسوكنة. وبعضها من بر السوادين. وعبدالقادر جامى نائب فزان يمضي من مرزق ليحضر جلسات (المبعوثان) على ضفاف البسفور. من الصحراء البعيدة إلى الشواطئ وهناك يلتقي مع النواب الآخرين من وطنه: سليمان البارونى وفرحات الزاوي ومصطفى بن قداره وعمر الكيخيا ويوسف بن شتوان.. وغيرهم من نواب ولايات الخلافة مترامية الأطراف قبل أن يعتريها الوهن.

مرزق. الإيقاع والأغاني والرقص والألحان الجميلة والعادات والتقاليد. لاتخطئها ذاكرة عمي جمعه مرسال راوية البلد وذاكرتها المتوقدة قبل أن يرحل وتموت معه آلاف الحكايا وتفاصيل التاريخ والفن. مرزق مركز الحضارة وسط الصحراء والقوافل حين تبرك فى رحابها. تنقل البضائع منها وإليها عبر الشمال إلى الجنوب ومع ذلك.. مع ريش النعام والعاج والشاي والسكر تحمل الإيقاعات والألحان وكلمات الغزل الرقيقه. الفن في مرزق حياة متوهجة تزغرد بالبهجة من الصباح إلى الليل.

مرزق جعلها الأتراك أثناء استبدادهم منفى للموظفين من مختلف الولايات العثمانية. اجتمعوا هناك من كل مكان. عاقروا الحزن والاشتياق الممل والتغنى بأمان أمان. تردد صداها في الوادي وتراغن وحج حجيل وكل بقاع الجنوب. ولامجيب. الحزن يزحف مثل النمل في الصدور .

وهناك. هناك بالتحديد يطل محمد صالح العربي شاويش. يلتحق بالمدرسة الرشدية فى مرزق. يتفوق بجدارة. يتم اختياره ليواصل تعليمه فى إسطنبول. ولأنه الإبن الوحيد يعترض الوالد. يظل في البلد معلما. يحمل رسالة التعليم في أواخر العهد التركي. يعلم الجيل الصغير الناهض خلال دروب النخيل.. يعلمه الدين والعربية والفرائض. ثم يصير كاتبا في المحكمة. هو أيضا ذاكرة مرزق فى عهود مختلفة. أواخر اْيام الترك ثم الطليان الذين احتلوا مرزق مرتين. ثم الإدارة الفرنسية. وعهود وطنية أخرى. شاهد عصر على صراعات وحصار لمرزق. والتداعيات. لكنه يظل القاضي في المحكمة لاحقا. والناس يحتكمون لديه فى بيته أو مقر المحكمة المتواضع. يسوي الأمور ويحكم بالعدل وسط الصحراء والنخيل وإيقاعات الدرابك. ثم صار قاضيا في أم الأرانب وبراك الشاطئ. حصيلة مهمة من الحياة في التدريس والقضاء وكلها تلامس حياة الناس كل لحظة وكل يوم. تجربة طويلة عرف خلالها أن الترك استبداد والطليان استعمار .

جمعه مرسال ذاكرة الأغاني والألحان والأوزان. محمد شاويش ذاكرة مرزق في التاريخ والأخبار والأحوال ومعيشة الناس ومشاكلها. الصوت الجهوري وتدفق الحديث عن ثقافة ومعرفة مطعمة بالألفاظ التركية. مجلة العربى أتت إليه فى مرزق وحاورته وصورته. وقبل ذلك فى يوليو 1977 التقيته وصورته وسجلت منه. تاريخ يمشي في كل الاتجاهات. وذكريات تتحرك. ثم يرحل عن تسعين عاما فى 1981. رحلت قطعة رائعة وكبيرة من تاريخ مرزق. تاريخ الوطن. تاريخ ليبيا. الشيوخ الكبار عندما يذهبون تضيع الكثير من التفاصيل. ويظل الحزن يدب مثل النمل في العروق وداخل الصدور.