Atwasat

رواية تمر وقعمول: إبداع السرد

عبد السلام الزغيبي الإثنين 24 فبراير 2020, 01:40 مساء
عبد السلام الزغيبي

تبدأ الرواية بصاحب السرد وهو يتجول في شوارع الحي الذي يسكن فيه، يرمي نوى التمر في عشب حدائق الألمان، دون أن يكترث لنظراتهم المستهجنة، معتمدا على حسن وحفاوة استقبالهم له، واستجابة لدقات قلبه، وحنينا إلى بلاده، التي يغني لها: «موح النخل خطر علي بلادي.. يا ريتني وليت مني غادي» وحسرة على البلد الجديد الخالي من أشجار النخيل التي يعشقها، وفي محاولته لإيجاد البديل، يلجأ لطريقة رمي نوى التمر على عشب الحدائق في محاولة لزرع الخير والنماء في ملجئه الجديد، ربما تعوضه عن نخيل بلاده..

ويتابع معنا الكاتب رحلة سرد روائي ممتع، يجعلك تسير معه بإرادتك الكاملة مع الذكريات والتخيلات عن الوطن البديل والوطن المسكون فيه، رغم البعاد والغربة..

في الرواية أخذني محمد الأصفر معه في رحلة إلى الشقة والحي الذي يسكن فيه، والاستدعاء الذي وصله من البلدية للتحقيق حول عملية رميه النفايات في الشارع العام، وحكايته مع السنجاب الألماني والجربوع الليبي، وعن النخيل الذي نبت في غير أرضه.. وعن القنبلة التي تم العثور عليها وانتشالها آخر الأمر بسلام. وعن علاقته الوثيقة بالنخيل والشعور بالغربة لغيابه، مما تسبب له في أرق وحزن ووحدة.

ويأخذنا الكاتب معه في سرد جميل ليحكي لنا قصة مأوى المسنين، وعن ابنته مهجة، وعلاقتها الروحية مع إحدى السيدات التي اتخذت منها «جدة» وابنه جبير الذي يلعب الشطرنج مع أحد نزلاء المأوى. ومشاركتهم في احتفال المأوى بالعيد الخمسين لتأسيسه، وتطوع زوجة الكاتب للعمل في المأوى وكانت اللحظة الفاصلة المؤثرة في الرواية هي تعرف الراوي على شخصية «سيد موشي» نزيل المأوى وهو يهودي ليبي، رحب بالعائلة الليبية التي كانت تحضر حفل مأوى المسنين، غنى لها أغنية مرسكاوية على شرفهم، شكرا لهم على منحه حبات التمر وعلى النخيل الذي زرعوه بالقرب من دار المسنين..

ويستمر الراوي في سرده الجميل، ونحن نلهث وراءه لنعرف نهاية القصة المشوقة، وحكايات وذكريات اليهودي الليبي الذي عاش في بنغازي ورحل عنها مرغما إلى فلسطين ثم هجرته مرة أخرى إلى ألمانيا، لكنه لم ينسَ يوما بنغازي، بل وتمنى زيارتها، قبل أن يرحل عن الدنيا، فهو يعشقها وكل أمله أن تطأ قدمه مرة أخرى تراب بنغازي التي عاش فيها أحلى أيام حياته وعنده فيها جميل الذكريات..

ومع صفحات الرواية نتابع ما يحدث في دار المسنين وحكايات موشيه وليلة عيد الميلاد والسناجب والنخيل وهدية رأس السنة وشرطية الحي الذي يسكن فيه «جولدا» وحكاية القعمول «خرشوف بري» ينبت فقط في إقليم برقة بشرق ليبيا وعلاقة اليهودي الليبي موشيه بالقعمول، وعودته إلى مدينته بنغازي بعد فبراير 2011 والترحيب الذي وجده هناك وعن الانتخابات التي جرت في البلاد لأول مرة، وترشحه فيها تحت راية «حزب القعمولة» ونجاحه فيها، واهتمامه بحماية البيئة وإقامة محمية للجرابيع... قبل أن يتم اضطهادها وهجرتها غير الشرعية إلى إيطاليا ومن ثم مغادرتها إلى ألمانيا حيث تعيش هناك بأمان..

وفي سرد آخر في الرواية، نعرف أن موشيه وزوجته قد عادا إلى ألمانيا ثانية، لبعض الوقت، ثم غادرا ثانية لبنغازي، وعمل على إنجاح عيد النخلة، ومرضه وتحقق أمنيته، بالموت على أرضها، ودفنه هناك، بحضور صديقه الليبي، الذي فرك القعمولات اليابسة مع شوكها ونثر خليطها فوق قبر اليهودي الليبي..

ويتابع الأصفر سرد خيط الذكريات منذ ولادته في منطقة الساحل قرب وادي كعام وعلاقته بجده ووالده وأمه، وعشقه للطيور والنخيل والكروم، ثم انتقاله لطرابلس وعمل والده في صناعة مصابيح الزيت والقناديل وبيعها، ولم ينسَ أن يحكي لنا عن مرضه الجلدي ومعالجة أمه له بماء بحر سيدي الشعاب في طرابلس، ومن ثم رحيل العائلة إلى بنغازي.. وحياته هناك وتطوراتها في العهد الملكي وسنوات حكم القذافي وقيام ثورة 17 فبراير وما جرى بعدها من أحداث وحروب داخلية وهجرته إلى بلاد الغرب واندماجه الإيجابي في الوطن الجديد، دون أن ينسى بلده الأصلي «الوطن حيث تعيش سعيدا»..