Atwasat

انقلاب القرن

جمعة بوكليب الخميس 20 فبراير 2020, 12:48 مساء
جمعة بوكليب

لأن حبل الزمان طويل جداً، «وما يعجبك في الزمان غير طوله»، كما تؤكد الأمثال والتجارب والخبرات البشرية المتراكمة، يدرك الناس أينما كانوا حقيقة أن «المتغطي بالأيام عريان»، وما كان سراً خافياً في فترة زمنية ما، لابد مع مرور الوقت من أن يتولى الزمن مهمة الكشف عنه، بأدواته وأجهزته المعروفة، واستخراجه من عمق الأرض، ليصير معلوماً للجميع.

في عام 1982 اشتد الخلاف بين بريطانيا والأرجنتين حول ملكية جزر المالفيناس التي تبعد عن الأرجنتين مسافة 480 كيلومتراً، والخاضعة للسيادة البريطانية منذ عام 1833، وتحظى بحكم ذاتي، ويطلقون عليها اسم جزر الفوكلاند. وسرعان ما اشتعلت نيران الحرب بين البلدين. آنذاك، كانت الأرجنتين واقعة تحت قبضة مجلس عسكري، بقيادة الجنرال جالتيري، وكانت بريطانيا قد بدأت منذ عام 1978، ووصول المحافظين إلى السلطة، تخوض مرحلة جديدة في تاريخها تحت قيادة السيدة مارجريت تاتشر المعروفة باسم المرأة الحديدية.

لم تطل المعارك طويلاً، وتمكن البريطانيون من هزيمة قوات الجنرال جالتيري، وعادت الفوكلاند، كما كانت، جزءا لا يتجزأ من المملكة المتحدة. خلال تلك الفترة، تسربت إلى وسائل الإعلام تقارير تؤكد أن الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريجان، قام بتقديم مساعدات استخباراتية إلى السيدة تاتشر ساعدت القوات البريطانية على التعجيل بهزيمة القوات الأرجنتينية.

في شهر فبراير 2020 كشفت صحيفة الواشنطن بوست في تقرير حصري صحة تلك التقارير الإعلامية ودورها في النصر البريطاني بعد أن تحصلت الصحيفة على وثائق استخباراتية أمريكية وألمانية غاية في السرية. هذا الكشف أطلقت عليه وسائل الإعلام اسم انقلاب القرن الاستخباراتي. والحقيقة أنه ليس انقلابا بل فضيحة «بجلاجل» كما يقول أخوتنا المصريون.

بالتعاون مع فريق إعلامي ألماني تابع لمؤسسة تدعى ZDF قام فريق من المحققين الاستقصائيين في الصحيفة بنشر تقرير يتعلق بقيام وكالة المخابرات المركزية (سي آي إيه) ومخابرات ألمانيا الغربية سابقاً، في عام 1970 بشراء شركة متخصصة في صناعة أجهزة التشفير بقيمة 5.75 مليون دولار. الشركة سويسرية، اسمها «Crypto AG»، أسسها مخترع شفرة روسي اسمه بوريس هيجلين، فرّ من بلاده إلى السويد خلال الثورة الروسية.
الشركة، وتحت إشراف الجهازين الاستخباريين، وبتوجيه من المالكين الجديدين، تلقت مساعدات تقنية متطورة من شركة سيمنز الألمانية وشركة موتوريلا الأمريكية.

في عام 1990 باعت المخابرات الألمانية حصتها في الشركة، في حين أن الـ سي آي إيه واصلت ملكيتها للشركة حتى عام 2018. الشركة حالياً تملكها شركة سويسرية تسمى «Crypto Security» ويقتصر بيعها للأجهزة المصنعة على الحكومة السويسرية، وشركة كريبتو انترناشيونال.

استناداً إلى تقرير الصحيفة، خلال حرب الفوكلاند، اعترى الأرجنتينيون شكٌ في إمكانية تعرض أجهزة التشفير المشتراة من الشركة السويسرية للاختراق، فأسرع المسؤولون في وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، خشيت افتضاح الأمر، إلى اللجوء إلى طلب مساعدة من بروفسور رياضيات سويسري اسمه «Kjell-ov Widman»، كان يعمل مستشارا علميا بالشركة منذ عام 1979، بالذهاب إلى الأرجنتين وإقناع قادتها باستحالة وجود أي تسريب أو اعتراض لأجهزة التشفير الموجودة لديهم. وكما هو متوقع، صدّقه الأرجنتينيون، لكنهم خسروا الحرب، وتلاها، بوقت قصير، سقوط نظام الجنرال جالتيري، ونهاية حقبة الحكم العسكري.

فريق صحيفة الواشنطن بوست، والفريق الإعلامي الألماني تمكنا من الاطلاع على عدد 96 صفحة من وثائق تشمل وقائع عمليات استخباراتية، من تلك الأجهزة المباعة، راجعها متخصصون في الـ سي آي إيه، وانتهوا منها في عام 2004. كما اطلعوا على تقارير أخرى شفوية أعدتها المخابرات الألمانية في العام 2008.

وكمشروع تجاري مربح، تمكنت الاستخبارات الأمريكية والألمانية من حصد ملايين الدولارات من بيع تلك الأجهزة، لكن المهم والأهم، وفقا لتقرير صادر عن الـ سي آي إيه، هو أن 40 في المائة من مجموع البرقيات الدبلوماسية وغيرها المتبادلة بين مختلف الأجهزة في الدول التي اقتنت تلك الشفرات كانت في حوزة الجهازين الاستخباريين الأمريكي والألماني.

ما أطلق عليه وصف، أو لقب انقلاب القرن الاستخباراتي ليس إلا مثالاً من مئات الفضائح غير المكشوفة حتى الآن. وكشفها في هذا الوقت، تحديداً، لم يكن بمحض صدفة، كما نتوقع، بل قد يكون للتمويه، وصرف الأنظار عن عمليات أخرى أكثر فضائحية، وسواء انتهت أو ما زالت سارية المفعول، وسيتولى الزمن كشفها مستقبلاً.