Atwasat

الريشة والجراح (2 - 2)

سالم الكبتي الأربعاء 19 فبراير 2020, 02:00 مساء
سالم الكبتي

كان البيت الليبي والمدرسة والسوق والشارع والنادي وبعض تنظيمات الجيش والطلبة وغير ذلك مشروعا جاهزا لتلقي الخطاب وهديره العالي المتدفق من كل الاتجاهات والتفاعل معه. وذلك، مرة ثانية، كان أمرا طبيعيا جدا. ووسط هذه الأجواء ظل العديد من النخب الوطنية العاقلة التي لم تغمرها العاطفة تشعر بأن ليبيا من بلاد العرب، ولا يمكن أن ينفصل عن أشقائه، وأن التقارب والوحدة ينبغي أن ينجزا بهدوء وبتخطيط وبتعقل وتنسيق بين كل الأطراف، لكن هذا الصوت ظل وحيدا أمام الأصوات الأخرى.

في وجه آخر لم ترض الدولة بأي نشاط غير مسموح به. حصل الصدام وتمت الاعتقالات والمحاكمات لبعض من التزم بتلك الأنشطة القومية (البعث، القوميون العرب) وكان بعضهم أيضا قد ابتعد منذ فترة عن المشاركة في أي عمل، لكن قوائم الاتهام طالته على الدوام.

والواقع أن الدولة الليبية كانت تحتفظ بعلاقات جيدة مع أغلب جاراتها شرقا وغربا في ديار العروبة، ولو أنها كانت تميل في أغلب الأحيان إلى نسق التعاون والتواصل ضمن أقطار المغرب العربي دون سواه. وسمحت بمساندة الجزائر وثورتها، وكانت الأسلحة المتجهة إلى الثوار هناك تنطلق أو تعبر أراضيها بعلم المسؤولين ورضاهم، والذين كانوا جزءا رئيسا في هذه الأعمال. وأسهمت في الدعم المادي المقرر لدول المواجهة (مصر والأردن) وفقا لقرارات مؤتمر الخرطوم في سبتمبر 1967. ولم تستفز أية دولة رغم أنها كانت مستفزة في الغالب. كانت تلتزم حدودها ولم تتجاوزها على الإطلاق.

وتلك الأيام مرت، وتغيرت المنطقة مرارا، وراجع الكثير من الزعماء والمثقفين مواقفهم وسياساتهم، وصار الاقتتال عربيا-عربيا أكثر من أي شيء آخر، وأضحي الكيان الصهيوني صديقا وجارا ترتفع رايته في كثير من العواصم العربية، إضافة إلى المصافحات والمقابلات من تحت الطاولة!

كان إدريس السنوسي قد عرف (اللعبة القومية) مبكرا. وقبل أن يتولى أية مسؤولية سافر إلى الشرق العربي العام 1914. زار مصر ثم حيفا والقدس ووصل إلى الحجاز، وهناك التقى شريف مكة الحسين بن عون وولديه عبدالله وفيصل. اندلعت الحرب العالمية الأولى تلك الأيام، ولاحقا انطلقت حركة ذلك الشريف ضد الوجود التركي التي عرفت بالثورة العربية الكبرى. دامت رحلة الرجل عاما كاملا. تعرف خلالها أثناء موسم الحج وبعده بالكثير من رجالات العرب، الذين اتصل بهم ودرس معهم القضية العربية التي كانت أيامها في دور اليقظة والنهوض. سئم العرب من الترك وطرابيشهم وأرجيلاتهم. لم تكن تلك الرحلة لإدريس السنوسي عادية أو محض صدفة، ومع مرور التاريخ تظل تحتاج إلى تقليب ودراسة. كانت اكتشافا للرجل للعالم العربي والمحيط الذي يجاور ليبيا في القريب والبعيد.

بعد أعوام من الرحلة في العام 1929 وخلال إقامته في مصر استدعى الرجل ذكرياته وواقع العرب والأمة، فأعد مخطوطا سماه (اتحاد العرب وائتلاف الموحدين) من ثلاث نسخ: احتفظ بواحدة وسلم النسختين الأخريين إلى الملك عبدالعزيز آل سعود والإمام يحيى حميد الدين. أشار في صفحات المخطوط إلى كثير من المسائل الراهنة في وقتها بقوله: (ينبغي أن لا تمنعنا مصائبنا الحاضرة وغوائل اليوم عن النظر والتفكير والعمل)، و(الاتحاد القومي موجود بنفسه، ويكفي فيه أن يكون الإنسان عربيا، فإن الفرد من هذه الأمة العربية يدرك بفطرته وبفكره الأول أنه ابن هذه الأمة التي زلزلت الأرض حينا من الزمن، وهذا العصر هو عصر القوميات، فلا تستطيع الأمة العربية أن تقف بعيدا عن هذا التيار)، و(أيها العرب اتحدوا وكونوا كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا، فإن الواجب المقدس يدعوكم أن توحدوا صفوفكم. إن أول الجهاد أن تعرفوا معنى الأخوة العربية وتوحيد السبيل)، و(والشعب العربي هو الآن على أبواب نهضة عظيمة ستتجاوز بعون الله ما كان عليه قبل قرون وأن التاريخ سيعيد نفسه والأحفاد هم سر الجدود). وفي إشارات أخرى للربط بين معاني الإسلام والعروبة أكد في رسالته العروبية على القول بأن: (الإسلام معناه الاتحاد، والإسلام واحد لا يقبل التجزئة، ولكن مع الأسف الشديد فقد أدى الجدل الكلامي إلى الاختلاف، فتفرق المسلمون إلى معتزلة وأهل سنة، وتفرقت المعتزلة شيعا، وتفرق أهل السنة في الاجتهاد إلى مذاهب، وهذا الاختلاف تجاذبته الأغراض السياسية، ولا سبيل لحسم هذا الخلاف إلا بالعود إلى الإسلام الذي بينه صاحب الرسالة على بساطة أسلوبه وسمو معانيه وجوهره. فلنفكر قليلا في إنصاف وتعقل وننظر إلى الحقيقة. إن هذه الفوضى أفسدت الجماعة الإسلامية جيلا بعد جيل. أفسدت الثبات والصبر والسعي المضطرد والاجتهاد والتفكير. إن المسلمين لعدم تمسكهم بروح الإسلام أصبحوا في ضعف وانحطاط، وقد ذهب استعدادهم الفكري لانكبابهم على المنقولات، فالتقليد في الفكر لم يكن فضيلة. فكيف نقف هكذا صغارا أمام الماضي، وكيف ننتظر من أسلافنا كل شيء كمن ينتظر الميراث ليعيش به). و(من أجل هذا نرى أن العصبية العربية معقولة ومشروعة بل وضرورية، على شرط أن لا تتعارض مع الأخوة الإسلامية، وأن لا تتعدى على الآخرين، وبهذه الوسيلة تقوى الأمة، تقوى العربية، ويقوى الإسلام معها).

هذا الكلام المخطوط مضت عليه عدة أعوام بعيدة تقارب قرنا، والأمور تتبدل، والزمان يصبح أحيانا غير الزمان، والكلمات تظل صدى السنين الحاكي، ترتطم بالصخور الملساء وتنزلق فوقها، والتجارب عديدة، والمرارات تقود إلى مزيد من التخلف والانهيار، والريشة المغموسة وحدها في الجراح النازفة لا تستطيع أن تمنح الشفاء. ذلك هو الحال القديم والراهن وربما القادم في حزن كسير.

..فهل نجح التيار القومي رغم الفشل الذي أصاب مسيرته في نهاية المطاف؟ هل سينهض من جديد أو يبقى تحت الرماد، أو يظل مجرد أطياف مفعمة بالحنين والذكريات والمرارات والأحلام؟

هل تستفيد الأمة من دروسها؟ هل تعي الأجيال دورها الحقيقي عن وعي نبيل لبناء تلك الأمة والنهوض بها من الركام الأسود، الذي يحيط بمستقبلها وقارب أن يفتتها ويمزقها إلى نقاط مجهولة؟

هل يظل التاريخ الشاهد الوحيد لتلك الأطياف المتوارية وراء الظلال.. عن أمة قد خلت؟!