Atwasat

شعراء كتبوا قصائدهم على ورق الألم

سالم العوكلي الثلاثاء 11 فبراير 2020, 01:03 مساء
سالم العوكلي

في إطار جدال سابق حيال الحرب وموقف المثقف أو الفنان منها ناكفت أصدقائي المثقفين بكون أسهل الخيارات أن (نقول لا للحرب) ونقبع في زاوية مقهى أو بار ننفث السجائر ونبرئ ذمتنا أمام التاريخ، فحتى لو سجل الشاعر موقفا ساميا ضد الحرب واكتفى بمجازاته الحالمة فسيكون نوعا من الخلاص الفردي الذي أظن أنه يعكر رسالة الوعي.

واعتبرت الشعراء أو المثقفين الفاعلين هم من لم يكتفوا برفضهم للحرب، وقرروا في لحظة كثافة نثرية أن يخففوا من آلامها أو يعالجوا جراحها، وأن يجعلوا من هذا الشر ــ اللابد منه حتى أجل غير معلوم ــ أكثر أخلاقية، بداية من إرساء عرف أخلاق الفرسان الشفوي في الصدامات الدامية، وصولا إلى من ابتكروا منظمات تخترق خنادق الحرب أو نيرانها، مثل: جمعية الصليب الأحمر وما انبثق عنها من مواثيق وقوانين إنسانية أثناء الحرب، أو منظمة أطباء بلا حدود، أو غيرها من الاجتهادات الواقعية لتخفيف وطأة كوارث لا نستطيع أن نوقفها بالمجازات الشعرية ولا بالدعاء، بل إن النظريات المتعلقة بأطروحات مثل صدام الحضارات، أو الحروب الدينية، أو الصراع على السلطة، أو الطاقة، أو الغذاء والماء العذب، أوالمجانين الذين يحلمون بالسيطرة على العالم، تتنبأ أن للحروب أمدا غير منظور، ومهما كانت الأسباب قوية أو واهية فهي واقعة وأقصى ما يمكن أن نفعله حيالها محاولة تخفيف آلامها وتداعياتها إلى الحد الذي يجعل الضمير نابضا حتى في قلب النيران والدماء المسفوحة.

عملت جهدا من أجل أن أهبط من برج الشعر الماسي الذي جعلني لفترة أرى الأمور من خلف ضباب كثيف، وأن أروض جماح أحلامي المحلقة حيال السلام الذي سينعم به العالم لو أنصت لإلهام الشعر والموسيقى، وحدق في معارض الرسم التي تصبغ لون الجراح على الورود والشفق وشفاه الأميرات. وماذا بعد؟ الحروب تستمر وبأكثر المبررات خداعا والأسلحة فتكا، والمقابر الجماعية يعثر عليها مرارا، وحقول الألغام تزحف على مساحات حقول القمح والتبغ، وأفق هذا العالم غير المرئي مازال يدخر الكثير من الحروب مادام الكائن المسمى إنسانا في نصف طريقه من طوره المتوحش إلى حلم الكمال الإنساني الذي يسير مرافقا حلمنا بأن نسافر يوما بسرعة الضوء، ويبدو أن الهوس بالحروب مازال قابعا في جينة تعمل بيكانيزم التوازن البيئي كما في كثير من الكائنات غير العاقلة.

المكان سولفرينو في شمال إيطاليا، والزمان 24 يونيو 1859، حين وصل مساءً مثقف وناشط اجتماعي سويسري يدعى: جان هنري دونانت، بعد 16 ساعة، إلى ساحة معركة اشتبك فيها الجيشان، النمساوي والفرنسي، ليجدها مكتظة بأجساد أربعين ألف بين قتلى وجرحى يئنون وسط بِرَكٍ من الدم في خلاء موحش متروكين لمصيرهم، فوجه نداءً للسكان المحليين كي يساعدوه في رعاية الجرحى من الجانبين، وهناك انبثقت وقدته الشعرية حين عاد إلى موطنه ونشر كتاب "تذكار سولفرينو"، ووجّه في هذا الكتاب نداءً يدعو لتشكيل جمعيات إغاثة وقت السلم لرعاية جرحى الحروب وأسراها، مع العمل على سن قوانين دولية تحمي هؤلاء المتطوعين لهذه الخدمات الخطرة، ومن هذا التداعي السردي لصدمة مثقف ظهرت "اللجنة الدولية للصليب الأحمر". توفي دونانت العام 1910 لكن اسمه ظل على رأس اللجنة التي تابعت عملها وفق رؤى كتابه إلى أن وصلت إلى سَنِّ اتفاقيات جنيف الأربع 1949 التي عززت حماية المدنيين في أوقات الحروب وما تبعها من بروتوكولات كانت كلها تسعى لتخفيف مآسي الحروب التي أدرك دونانت أنها لن تنتهي لأمد طويل. تحصل على أول جائزة للسلام تمنحها لجنة نوبل وهو في مشفاه في مدينة هايدن الذي قضى فيه سنواته الثمانية الأخيرة، وقد بعثت له اللجنة الدولية للصليب الأحمر رسالة تقول: «ليس هناك من يستحق هذا الشرف أكثر منك فأنت الذي أسست منذ أربعين سنة مضت المنظمة الدولية لإغاثة الجرحى في الميدان، ومن دونك لم يكن ممكناً أن يتحقق ذلك الإنجاز الإنساني الأعظم، الصليب الأحمر». كان من الممكن أن يكتب دونانت كتابا مختلفا يدعو فيه العالم للسلام ويبرئ ذمته كمثقف قال يوما لا للحرب، لكن صدفة مجيئه إلى شوارع سولفرينو المكتظة بأجساد القتلى والجرحى نقلت رسالته إلى فضاء آخر، قد يقول البعض أنها الواقعية، لكنني لا أوافق تماما، فهذه الوقدة الشعرية؛ التي فكرت في طريقة للعمل الإنساني، وسط لهيب ودماء الحروب، دون أن تطالب يوما بوقفها، لا يمكن إلا أن أحيلها إلى فضاء سريالي، يجعل من صدمة الواقع لفحة لاقتراح خيالي لم يكن ممكن التفكير فيه في ذلك الوقت إلا مثلما تفكر في زرع شجرة في فوهة بركان، وما عدت أستغرب جوابي الارتجالي حين سألني مرة شاعر شاب عن أفضل الشعراء عندي فقلت له: جان هنري دونانت.

بعد قرن تقريبا حصل تناص بين دونانت وطبيب يدعى بيرنارد كوشنر مؤسس منظمة أطباء بلا حدود القائل في إحدى قصائده المرتجلة "الأمر بسيط حقاً: فما عليك سوى أن تذهب إلى حيث يوجد المرضى والمصابون". يبدو الأمر واضحاً لكنه كان ثورياً وقتها، تغيرت وسائل التواصل والإخبار، ولم يكن بيرنارد في حاجة لأن يذهب على قدميه إلى ساحة حرب ليرى الجثث المكدسة، لكن جهاز التلفزيون دخل الحيز البصري للإنسان جهاز، وكان ينقل فظائع الحروب إلى زوايا البيوت الدافئة، فقد شاهد الفرنسيون صورا مرعبة ومتحركة بالأبيض والأسود كانت تنقلها شاشات التلفزيون أثناء ثورة مايو 1968، كما بث لأول مرة مشاهد أطفال يموتون من الجوع في أصقاع نائية من الأرض، وجثثٍ مكدسة في حروب تنتقل من مكان إلى مكان، ووسط الانتفاضة الباريسية 1968، قررت مجموعة من الأطباء الشباب الذهاب لمساعدة ضحايا الحروب والكوارث الكبرى. أدى هذا النوع الجديد من العمل الإنساني إلى إعادة تعريف مفهوم إغاثة الطوارئ، فقد كانوا في طريقهم ليصبحوا أطباء بلا حدود. وكانت البداية كمتطوعين في اللجنة الدولية للصليب الأحمر، ومع الوقت اقتحم هؤلاء الفدائيون الناعمون معاقل الأوبئة التي ألمت بأمم مازالت تعتبر الوباء لعنة من الله وتستعين بالمشعوذين في مواجهتها، ولقي الكثير من الأطباء والطبيبات وكوادرهم حتفهم دون أن يتوقف تدفقهم على مواطن الخطر والموت المتربص، وكثيرا ما وجدوا أنفسهم يعملون ليلا نهارا في مستشفيات تستهدف بالقذائف كل ساعة.

ما أريد قوله، وما يجعلني أصف هؤلاء بالشعراء، كونهم مضوا بخيال سريالي إلى رسالة تخفيف وطأة المآسي في ذروة قناعاتهم بأن هذا الموّرث القديم لغريزة العنف مازال نشطا وربما لن يقضي عليه إلى فانتازيا الاستنساخ التي يمكنها التحكم في هذه المورثات التي لم تزود بكوابح عند الإنسان، دون الكائنات الأخرى، لأنه من المفترض أن يكون عاقلا ويتدبر ميكانيزم التوازن الطبيعي بطرق عقلانية. ثمة إحصائية شيقة وشاقة تقول أنه لولا الحروب والكوارث لكان تعداد البشر في بداية الألفية الماضية تجاوز المائة مليار فَمٍ لا يكفيها الماء العذب ولا الأراضي القابلة للزراعة في كوكب الأرض كي تطعمه. بعض المجتمعات تدبرت أمورها عبر برامج سلمية لتحديد النسل، وبعضها الذي يتناسل مثل الأرانب، والذي يعتبر هذا الإجراء مُحرّما، ويتفاخر بالخصوبة وبنسبة النمو السكاني المرتفعة التي تكدس الفقراء على الأرصفة، مازالت الغرائز والبيئة تتدخل في شأنه بقوة كي تقوم الطبيعة بعملها.