Atwasat

شرعنة الاستبداد بين السلطاني والشرعي.

رافد علي الخميس 30 يناير 2020, 12:54 مساء
رافد علي

برزت بعد انتقال الحكم في الإسلام من الخلافة إلى ملك عضوض مصنفات عرفت بالآداب السلطانية أو السياسة الملوكية بقصد توفير رصيد من الإرشاد والنصائح للسلطان ببعد براغماتي تفرضه الظروف السياسية لتسير شئون السلطان و حفظه و لضمان ولاء الرعية للحاكم. فقد اشتغل رجال البلاط- بطلب من السلطان عادة- بالتأليف في السياسة الملوكية أو الآداب السلطانية بقصد توفير الغطاء العملي لتدابير السلطان السياسية تجاه دولته ورعيته بأسلوب أدبي يبتعد عن نهج التأصيل الفقهي الشرعي للفقهاء. إذ من مميزات مصنفات الآداب السلطانية، كما هو معروف أكاديميا أنها كتابات تحتوي علي نزعة أخلاقية من خلال تواري البعد القانوني أو التشريعي تاركة جل المساحة فيها للبعد الأخلاقي مع التأكيد بذات اللحظة على الدين كأساس دون الخوض في الآراء الفقهية بقصد تبيان الاختيار السلطاني في التدبير السياسي تجاه دولته وحاشيته ورعيته. فبتحليل ابستمولوجي بسيط يستبان أن الفلسفة والحكمة الفارسية والهندية واليونانية كانت مصدرا هاما لمادة هذه المصنفات السلطانية. و يري د. عزالدين العلام في كتابه "الآداب السلطانية" الصادر عن سلسلة عالم المعرفة ان الاقتباس من المنظومة اليونانية السياسية هو الاقل مقارنة بالفارسية وذلك لعدم توافق التأصيل الفكري بين المنظومة السياسية اليونانية والمنظومة العربية. فالمنظومة السياسية اليونانية حالة تكريس لسياسة مدنية، في حين أن المنظومة السلطانية تكريس للعصبية والخلط بين ماهو سياسي وديني وأخلاقي. ويعلل العلام فكرته بذات كتابه بإلاشارة إلى فارق جوهري بين المنظومتين والمنصب على أن المنظومة الفلسفية اليونانية تكرس المواطنة، في حين أن السلطانية تكرس الرعية. معززا بذلك الاعتقاد السائد في أن هذه الأدبيات قد جاءت لتكريس حكم الفرد الاستبدادي في الثقافة العربية والاسلامية، ناعتا هذه الظاهرة بمصطلح "الاستبداد الشرقي" الذي يصل إلى تأليه الحاكم.

و بسبب طبيعة مصادر مؤلفات الآداب السلطانية عموما في إبراز كل ما هو براغماتيكي من المواعظ والحكم والعبر للحاكم بما يوفر رصيدا من النصح والإرشاد التي عادة ما تكون مقتبسة من ديوان الشعر العربي أو آيات من القرآن، أو مستندة على الفلسفة الفارسية - بالدرجة الأولى- والهندية واليونانية؛ أن أثارت حفيظة فقهاء الدين عن هذا النوع من المؤلفات باعتبار أن "الحكم الشرعي شروطا و مبادئَ" وجب أن يستمد من ضمن تفسير الفقيه دون سواه للنص المقدس. ومن الأدلة الهامة التي تشير لحالة عدم ارتياح الصف الفقهي لمثل هذه المؤلفات السياسية، هو "تطفل" الإمام المتشدد أبي تيمية على الأدبيات السلطانية بتأليف كتابه "السياسة الشرعية في إصلاح الراعي و الرعية "، الذي حاول فيه ذاك الفقيه المعروف جاهدا مد الصبغة الدينية حسب رؤيته الحنبلية للسياسة وشئون الحكم، أو كما اتفق على تسميته ضمن مفردات هذه الأدبيات بمصطلح إدارة "الجند والمال"، والذي حافظ ابن خلدون على ذكره في مقدمته الشهيرة، مشيرا إلي كتاب أبو بكر القرطوشي في الآداب السلطانية "سراج الملوك" بكون الطرطوشي قد "حام" حول أفكار "علم العمران" الذي خصص له ابن خلدون في مقدمته جهدا لإبرازه كحقل علمي جديد، مشددا علي التنبيه إليه ضمن خصائص المجتمع العربي بشقيه الحضري والقبلي، ومبرزا مدى خطورة تمادي القبيلة عن دورها الاجتماعي - حسب سياديتها وتراتبيتها وتركيبها - لتمارس شئون السياسة، مطورا في مقدمته من مصطلح "الشوكة" عند قدوته حجة الإسلام الإمام الغزالي، و مكرسا بنجاعة فريدة مفهوم و مصطلح "العصبية " كما هو معروف في الخلدونية.

مؤلفات الآدب السلطانية انطلقت مع نهاية الدولة الأموية بالنصف الأخير من القرن الثاني الهجري، و يذكر التاريخ أن معاوية كان في أثناء حكمه يطالع كتب ومؤلفات آداب السلطانية لملوك عجم للاستعانة بها كمرشد في ترسيخ "ملكه العضوض". ولقد برزت أسماء كثيرة في مجال التأليف من هذا النوع من الكتب، نذكر منها على سبيل المثال عبد الحميد بن يحي المتوفى عام 132 هجري، وابن المقفع المتوفى عام145 هجري وابن الربيع المتوفى 227 هجري والجاحظ المتوفى 255 هجري. ووجب الذكر أن للدولة العباسية دورا بارزا في استمرار هذا النوع من الكتابة تماشيا مع نشاط حركة الترجمة وازدهارها في لحظة اختلط فيها العرب واحتكوا بأمم اخرى بسبب الفتوحات.

ورغم حرص الآداب السلطانية على مركزية الحاكم لدرجة تأليهه أمام رعيته، تبرز أهمية هذة الآداب في كونها تصلح دليلا هاما على استيعاب العرب للتاريخ كعنصر هام لنهل الدروس والعبر. كما أن هذه الأدبيات تشير إلى أهمية دور العلم والثقافة بالنسبة للحاكم في تسيير شئون ملكه وإدارته بقصد المحافظة عليه من "ثورة الرعية" التي تشبهها هذه الادبيات دائما بأنها "شر لا يؤتمن". بل يذهب الدكتور أحمد محمد سالم إلى أبعد من ذلك، إذ يرى في كتابه "دولة السلطان" الصادر عن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة، أنه من خلال استقراء كتب الآداب السلطانية يتضح رغم إجمالية المبادئ والأسس التي جاء بها الإسلام في قضايا الحكم والسياسية، نجد أنه ينعدم وجود شكل أو نمط للحكم الإسلامي. فالخلفاء الراشدون حكموا بطريقة تختلف عن الأمويين، ورغم التشابه بين الأمويين والعباسيين في الشكل الملكي للحكم، فإن تدابير الحكم العباسي كانت مستندة على الأسلوب النمطي الساساني الفارسي الأصل في شئون الحكم، بما يفند حسب رؤية د. أحمد محمد سالم آراء أنصار وجود نظرية سياسية للحكم في الإسلام بشكل كامل التفاصيل ومصبوغة بالقدسية.

و لعل جدلية الدكتور سالم بكتابه المذكور توضح بشكل أكثر عمقا فكرة الدكتور المرحوم محمد عابد الجابري إذ اعتبر الأخير بكتابه "فكر ابن خلدون: العصبية و الدولة" الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية إذ اتخذ من تأليف ابن تيمة لكتابه "السياسة الشرعية في إصلاح الراعي و الرعية" دليلا علي حالة عدم رضى فقهاء الدين على الآداب السلطانية باعتبارها مؤلفات تتناول السياسية وتدابيرها لحفظ السلطان بعيدا عن مدرسة الفقه الديني. فلجوء ابن تيمية للتأليف لتأصيل هذا الحقل شرعيا من خلال الكتابة وفق نظريته الشرعية وبما يتماشى مع منظوره الحنبلي المتشدد توج بنجاح علي المستوى الابتسمولوجي، وأمسي الفارق شاسعا بين السلطاني والشرعي.

و لعله من المثير جدا أن نستنتج من كتابي الدكتورين الجابري وسالم تفسيرا أعمق لاقتحام ابن تيمة حقل التأليف في مجال الآداب السلطانية بأنها محاولة تتجاوز مجرد خلق حالة التعارض الابستمولوجي بين السلطاني والشرعي، بل أجدها تمتد لتكون محاولة تأسيسية للثيوقراطية من نوع إسلامي من خلال تخصيص المادة والمؤلف. فالمادة وجب أن تكون مقتصرة علي القرآن والسنة والإجماع، بدون إقحام أي مواد فلسفية أو حكم من ثقافات أخرى مما يبعد الصبغة الأخلاقية المجردة التي تحاول السياسة الملوكية بسطها أسلوبا في الطرح رغم احتفاظ هذه الآداب باستخدام مصطلحات الشرع والشريعة. أما من حيث المؤلف، فوجب حسب ابن تيمية أن يكون الكاتب فقيها، باعتباره الشخص الوحيد المخول بالاشتغال بالشريعة. وهنا تبدو محاولة ابن تيمة لاقتحام مجال الآداب السلطانية محاولة تأصيلية لأدبيات الحكم الإسلامي من خلال شرعنة الاستبداد السلطاني ضمن الدولة الثيوقراطية عبر بسط نفوذ الفقيه على صنع قرارها. أي بعبارة أخرى إن السياسة الشرعية لابن تيمية يمكن اعتبارها "بديلا عن السياسة الملوكية" ووفق النهج الديني الحنبلي المتشدد، والذي سيبني عليه المودودي بعصرنا الحديث نظرية الحاكمية لله ضمن مفهوم الولاء والبراء والتي سيقيم عليها الإسلام المتطرف منهاجه الجهادي الدامي بشكله المروع المعروف في عصرنا الحديث. الدكتور محمد شحرور بكتابه الدين والسلطة يعتبر كتاب السياسة الشرعية في إصلاح الراعي و الرعية "ذا أثر عظيم على الفكر السلفي الجهادي المعاصر لأنه يتناول علاقة الأمير برعيته في ظل الشريعة"، ويشدد "على تطبيق الحدود حرفيا ويعظم الجهاد ويمنحه أولوية عظيمة بكون مكانته تأتي فوق الشعائر وان الجهاد يجب أن يكون ضد اي شخص لا يقر بالحاكمية المطلقة لله.".