Atwasat

متلازمة الشرق الأوسط

سالم العوكلي الثلاثاء 28 يناير 2020, 01:36 مساء
سالم العوكلي

العام 2013 اكتُشِف بواسطة طبيب مصري يعمل في مستشفى بمدينة جدة السعودية، فيروس جديد يشبه فيروس سارز الذي أودى العام 2003 بحياة حوالي 800 شخص، وتعود هذه الفيروسات إلى عائلة الفيروسات التاجية التي اكتشفت إبان الستينيات من القرن الماضي، وسميت كورونا فيروس، و Corona تعني في اللاتينية التاج أو الإكليل، وينتقل عبر الاحتكاك المباشر بين الناس وهنا تكمن خطورته في عالم منساب أصبح فيه الانتقال من قارة إلى قارة ميسرا وسريعا، بينما حجم التبادل التجاري بين الصين والعالم العربي بلغ 200 مليار دولار سنويا.

نجح البروفسور المصري علي محمد زكي في عزل هذا الفيروس من رجل قضى بسبب هبوط حاد في التنفس وفشل كلوي. في تلك الفترة كان الربيع العربي في أوجه مع انتشار فيروس الحرية الذي بدأ يفتك بأنظمة كانت تعتقد أنها ملقحة ضد الثورات، لذلك لم ينتبه أحد لاكتشاف فيروس كورونا لأول مرة في المنطقة حيث كانت أخبار هذا الربيع وتداعياته تحتل الميديا. تواصل البروفيسور زكي مع عالم جراثيم معروف، دكتور رون فيوشيه، الذي يشرف على مختبر علمي في هولندا، الذي أكد بدوره أن العينة إيجابية تتعلق بسلالة تاجية قديمة تسمى فيروس كورونا انحدرت حسب تقريره من الخفافيش، وكان البروفيسور المصري في طريقه إلى كشف حصري هام في الوقت الذي كانت فيه السلطات الصحية السعودية تنهي عقده حين تواصل معها للتعامل مع هذا الخطر القادم الذي حذر من إمكانية أن يتحول إلى وباء سهل الانتشار في تقاريره. وبدأت مؤسسات صحية ومختبرات دولية تطلب عينة الفيروس من فوشيه، لكنه كان بدوره يطلب من الجميع التوقيع على اتفاق يعرف باسم EMC “يحفظ حق مختبره”. لتندلع معركة حول صاحب الملكية الفكرية حتى ظهور هذا الفيروس الشرق أوسطي في مدينة ووهان بالصين تسبب في عزل عشرات الملايين من سكان مدن انتقل إليها عزلا تاما.

بعد مؤتمر دافوس الاقتصادي أعلنت الصين عن الحالة الخطرة التي تتعرض لها جراء اكتشافها تفشي هذا الفيروس المبدئي وانتقل الحديث مباشرة من الاقتصاد إلى علم الأوبئة، بل أن تأثير هذا الفيروس الذي يشبه إكليل الشمس والذي لا يرى بالعين المجردة تجاوز تأثيره في الاقتصاد العالمي تأثير مقتل الرجل الثاني في جمهورية إيران الجنرال قاسم سليماني، وتأثير ضرب القواعد الأمريكية في العراق بصواريخ إيرانية لأول مرة، وتأثير انسحاب معظم النفط الإيراني والليبي والفنزويلي من الأسواق العالمية. واستطاع هذا الحمض النووي الريبوزي غير المرئي أن يطيح بتغريدة ترامب المتفائلة حد التبجح عن تعديل اتفاقياته التجارية مع الصين، هذا التنين الذي ينفث نيرانه في اقتصادات العالم يروض جماحه هذا الكائن غير المرئي، ما يعكس هشاشة هذا العالم وهشاشة اقتصاده المبني على المضاربات وعلى تريليونات لا يقابلها على الأرض إنتاج حقيقي كابتكار سحري للرأسمالية التي أحالت العالم إلى ما يشبه لعبة الثعبان والسلم.

تشير تقارير علمية إلى أن الثعابين (بدون سلم) قد تكون هي المصدر الأصلي للعدوى بفيروس كورونا المكتشف حديثا في الصين، حيث وجدوا أن رموز البروتين في الفيروس الجديد تشبه إلى حد كبير تلك المستخدمة في الثعابين، بينما كشفت دراسات ميدانية أخرى عن أن المصدر الأصلي لمرض السارس ومتلازمة الشرق الأوسط التنفسية، هو الخفاش. وفي الأحوال جميعها يعد تفشي فيروس كورونا الجديد بمثابة تذكير آخر بأنه يجب على الناس الحد من استهلاك الحيوانات البرية لمنع العدوى الحيوانية المنشأ، وتظل الطبيعة تدافع بضراوة عن توازنها البيئي غير معنية بالنظريات الاقتصادية والبورصة والمضاربات لعالم تحول اقتصاده إلى حقل الميتافيزيقيا بكل ما تعنيه الكلمة، وتختزل لعبة هذا الاقتصاد أو خداعه في إحصائية تقول أن حجم اقتصاد العالم كله 85 تريليون لكنه اقتصاد مدين بحوالي 235 تريليون، ما يعني أنه مدين بثلاثة أضعافه، وهذه المديونية الضخمة تتحمل أعباءها الدول الفقيرة أو ما يسمى العالم الثالث بينما تزدهر الدول المهيمنة برأس المال الفاعل.

جراء ظهور كورونا في قلب أحد أكبر اقتصادات العالم، هوت أسعار النفط وارتفعت أسعار الذهب وهبطت أسعار الدولار وتراجعت الأسهم في جميع القارات وسط موجة عاتية من البيع والبحث عن ملاذات آمنة للمال أكثر من البحث عن ملاذات آمنة لملايين البشر المهددة حياتهم بهذا الفيروس، وخفض صندوق الدولي توقعاته لنمو الاقتصاد العالمي بينما يتوقع بنك غولدمان ساكس مزيدا من تراجع أسعار النفط مع انتشار الفيروس بسبب انخفاض الطلب على وقود الطائرات يقدر حتى الآن بربع مليون برميل يوميا. وتذكر دراسة أخرى أعدها البنك الدولي، أن انتشار الأوبئة والأمراض يكلف الاقتصاد العالمي نحو 570 مليار دولار سنوياً أو ما يوازي نحو 0.7% من حجم الناتج المحلي الإجمالي العالمي.

بالتأكيد لا ترجع أسباب هذا التهاوي في الاقتصاد العالمي للفيروس في حد ذاته، ولكن في المكان الذي يكتشف فيه، وحين يكون المكان من أكبر اقتصادات العالم مثل الصين فإن التأثير قوي، وحين تكتشف حالة واحدة في الولايات المتحدة فجرس الإنذار سيقرع بقوة في أكبر اقتصاد في العالم، ولم يكن تأثير هذا الفيروس حين اكتشف أول مرة في السعودية أكبر اقتصاد عربي بهذا التأثير، لكنه سمي: متلازمة الشرق الأوسط التنفسية (MERS-CoV)، التي تسببت في وفاة مئات الأشخاص في تلك الفترة.

يحيل البعض ظهور مثل هذه الفيروسات الفتاكة بشكل مطرد إلى مختبرات التلاعب بها التي كانت ومازالت تثابر في بحوثها حول إمكانات الحروب البيولوجية أو الجرثومية، حيث يخرج المارد الجديد عن السيطرة، لكن المارد هذه المرة جسم صغير لا يرى بالعين المجردة يشبه هالة الشمس التي كنا نرسمها في كراسات الرسم في مراحل تعليمنا الأولى.

يثير كورونا الهلع في مواقع التواصل وفي بعض الأحيان نوعا من السخرية والتهكم حيث يتساءل أحدهم: هل غدت حتى الأوبئة التي نستوردها تحمل (made in china)، بينما يغرد لبناني أن كورونا ليس مرغوبا فيه لأننا مصابون بفيروس الطبقة السياسية الفتاك الذي لا علاج له. أما المتشفون عبر الكوارث والشامتون فيحيلون انتشار هذا الفيروس إلى ما يتعرض له المسلمون في الصين من اضطهاد، والبعض يحيل انتشاره إلى نظرية المؤامرة والحرب الاقتصادية على الصين، ولم لا؟ طالما الحرب الإلكترونية الشرسة تستخدم الفيروسات ضد المؤسسات الاقتصادية الكبرى وتكلفها سنويا المليارات من الخسائر.