Atwasat

بضات متقاطعة 18- تهاليل رخاء الطفرة الأولى

محمد عقيلة العمامي الإثنين 20 يناير 2020, 01:06 مساء
محمد عقيلة العمامي

مع بداية سنة 1963 تضاعفت المرتبات، وألحقت بها علاوتا العائلة والسكن، وبدأت غمامة الفقر تنقشع شيئاً فشيئاً عن ليبيا. في بنغازي أخذ الخمار، أو(البيشا) تنقشع عن وجوه فتيات مدرسة الأميرة للبنات، وأصبح بمقدور الشباب الحلم طوال الليل ببراءة وجوههن، وتضاريس أنوثتهن، التي يسمعون بها ممن سافروا إلى طرابلس، حيث تتنافس الفتيات الإيطاليات في أماسي نهاية الأسبوع في استعراض ما تود الأنثى أن تعرضه. بنطلونات (الجينز) النسائية التي كانت معروفة في طرابلس لم ير شباب بنغازي مثلها إلاّ في منتصف الستينيات. فتاتان معروفتان كانتا محط أنظار المدينة كلها، إذ كانتا أول من تهادى بهما في شوارع بنغازي الرئيسة/

في الأماسي الصيفية، وبامتداد شارع عمرو بن العاص، والاستقلال، وعمر المختار حتى ميدان البلدية، كان ذلك "الحنطور" الذي يجره الحصان ذو الأجراس النحاسية يتمايل على وقع أصوات إيقاع حدواته على الطريق، فيما تتسع ابتسامة الحوذي ذو السن الذهبية، وفرقعات ضحكات الفاتنتين "عيشة وسعيدة" بوجهيهما الجميلين تحت عتمة مظلة الحنطور. تلك كانت متع الشباب، المتجمعين عند نواصي تلك الشوارع الفرعية، فمعظمهم لا يمتلكون ثمن تذكرة سينما النهضة، للسرحان مع الراقصة ساميه جمال ومواويل فريد الأطرش.

في الليل تبتدئ سهرات الشباب، من بعد أن تقفل النوادي الرياضية أبوابها، وتتوزع ما بين مناسبات الأعراس والأغاني الشعبية، أو سهرات جليانه الصيفية، أو التحلق حول موائد لعب الورق البريء، وغير البريء. وكانت هناك فئات أخرى تتنوع سهراتها ما بين ما ذكرنا، وإن كان الشعر والأدب يجمعها ويسود جلستها خصوصا إذا ما كان راوية له كخليفة الفاخري في صدر الجلسة. ومع ذلك كان معظم الشباب العامل ملتزما، ومنضبطا بالحضور والانصراف، فلقد كان احترام العمل من أساسيات وأخلاق الانضباط الحكومي، الذي قد يتأثر بعودة أحد أصدقائهم، لقضاء إجازته الشهرية، من حقول النفط محملا بحصته من معلبات التونة والسردين، المعلبة محليا من أسماك تنارات ليبيا وحلاوة كانون الطحينية، وفوق ذلك مرتب يفوق كثيرا مرتبات الدولة.

مضاعفة المرتبات كان لها بالغ الأثر في بدء ازدهار البلاد، وتدفق السلع، ناهيك عن حركة عمرانية بدأت تظهر هنا وهناك. لم يكن هناك نظامٌ حزبي، بل لم يكن مسموحاً به أساساً، ولكن كانت هناك إرهاصات وتجمعات بسيطة ذات طابع سري للغاية، لعل فكر البعث، والمد القومي، ثم اليساري أبرزها، ناهيك عن جماعة الإخوان المسلمين التي بدأت تتجمع هنا وهناك، ولكن المد الناصري العربي القومي هو ما كان يلهب مشاعر الشباب، الذين أخذوا بخطابات أحمد سعيد، وكامل البيطار، وإذاعة «صوت العرب» ، وأغاني الوطنية فايده كامل وعبدالحليم حافظ الوطنية، والتي كانت تردد وكأنها عاطفية، أما تأثير المدرسين المصريين على طلبة المدارس وشباب الجامعات فكان في ذروته.

في شهر مارس من تلك السنة، تولى السيد محيي الدين فكيني رئاسة الوزراء، واستهل حكمه مع إلغاء النظام الفيدرالي وصارت ليبيا موحدة في 25 أبريل من العام نفسه، وفي عهده أيضاً بنيت في بنغازي العمارات الخمس بشارع عمرو بن العاص بجانب القنصلية الإيطالية في بنغازي، وكانت في حينها مشروعاً ضخماً! والحقيقة أن حكومة فكيني كانت بعيدة عن فساد، كنا نسمع عنه لنكتشف فيما بعد، أنه لم يكن بالصورة التي وصلتنا.

حكومة فكيني، لم تستمر أكثر من تسعة أشهر بسبب أحداث 13 و14 يناير من سنة 1964، حينها كنت موظفاً بخزينة المنافع العامة «إحدى مصالح نظارة الأشغال»، التي تقع قريباً من مدرسة بنغازي الثانوية.

عند الحادية عشرة تقريباً من صباح يوم 13 يناير 1964 دخل بهو صالة الخزينة الكابتن، فيما بعد، مختار عبيده، ومحمود الفيتوري، رفقة طلبة آخرين، كانوا قد رشقوا البوليس بالحجارة، فردَّ عليهم البوليس القوة المتحركة برصاص لم يعتادوه، وتعقبتهم فلجأوا إلى الصالة. وتمكنتُ رفقة موظفي مصلحة المنافع، ومساعدة سعد النوال الذي كان، حينها، رئيساً للخزينة من تمويه البوليس، وإخفاء الطلبة، ثم تهريبهم من جهة الخلف، عبر محطة سكة الحديد القديمة، نحو حافة البحيرة ليخرجوا من مستشفى «بوروزدوشوموا».

مساء اليوم التالي، عمَّ بنغازي حزنٌ جليلٌ.. صارت وكأنها سرادق عزاء لطلبة في عمر الزهور فقد قتل الرصاص طالبين هما مسعود النقاز، وعلي لامين البيجو، ثم لحق بهم مفتاح بن حريز، بعد عشرة أيام متأثراً بجراحه. جميعهم من طلبة مدرسة بنغازي الثانوية. ثم عمت المظاهرات المدن الليبية ليصل احتقان الناس درجة لم يعتدها النظام، كان الإحساس بمرارة رصاصهم يقتل أبناءهم عميقاً، كانوا ينتظرون من مليكهم مشاركة فاعلة في أول قمة عربية دعا إليها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر سنة 1964م، ولكنه أوفد ولي عهده، فلم يرضَ الناس بذلك واعتبروا أن قراره شكلٌ من أشكال الرفض للتوجه العربي.

تظاهر طلبة الجامعة في البداية، ثم التحق بهم طلبة مدرسة بنغازي الثانوية وكادت المظاهرة تنتهي سلمياً لولا غباء بعض رجال البوليس، ثم هاج الشارع بعد أن اُستشهد ثلاثة طلبة من مدرسة بنغازي الثانوية، وهي التي تسمت فيما بعد «مدرسة شهداء يناير»، ولقد جرح عددٌ من الطلبة، وكانت إصابة سالم محمود بوشريدة خطيرة، تعافى منها بعد فترة.

لقد اتهم الضابط أحمد حسين بإطلاق الرصاص، وأوقف عن العمل كل من السنوسي الفزاني، وعبد الونيس العبار، وسليمان بوشعالة وسالم هدية. طلب رئيس الوزراء محي الدين فكيني من الملك إقالة السيد محمود بوقويطين من منصبه، باعتبار أنه قائد البوليس، فلم يستجب الملك فاستقال من الوزارة وتولاها من بعده محمود المنتصر من22 /1/ 1964حتى 20 /3/ 1965.

وفي تقديري أن ما حدث يومي 13 و14 يناير سنة 1964 هو شرارة تذمر أشعلت نارًا ظلَّ جمرها تحت الرماد، ثم تسببت هزيمة يونيو 1967 في تأجيجه، ومع ذلك لم ينفجر إلاّ بعد عامين كاملين. في الحلقة القادمة سنتناول " النكسة" التي لم نتجرأ على تسميتها هزيمة إلاّ بعد سنوات ليست بالقصيرة.