Atwasat

الجابري وطرابيشي: ثلاثة عقول وثلاث أيديولوجيات. (2–2)

محمد خليفة الإثنين 13 يناير 2020, 10:49 صباحا
محمد خليفة

ثانيًا. تعدد الأيديولوجيات.

الأيديولوجيا هي منظومة الأفكار التي تعطي «الخطاب» طابعه المميز، فالأيديولوجيا الإسلامية هي الضابط المميز للخطاب الإسلامي، والأيديولوجيا الماركسية هي الضابط المميز للخطاب الماركسي… وهلم جرا. ولذا لابد من وضع جدل طرابيشي مع الجابري في السياق الأيديولوجي المناسب لكل منهما، وهو سياق العقول الثلاثة: 1) الفطري وهو واحد عند كل البشر، و2) المكتسب الذي ينقسم عند صاحب هذه الدراسة إلى: أ) مسلم، وب) غير مسلم. وبذا يكون عندنا عقل فطري واحد وعقلان مكتسبان: مسلم وغير مسلم. ولما كان صاحب الدراسة عقلانيا-مسلما، والجابري عربيا-عقلانيا، وطرابيشي عقلانيا-علمانيا، سيتم تفصيل الأيديولوجيات الثلاث وفق رؤى هذه العقول بحسبها متوحدة في الانتماء إلى العقل الفطري ومنقسمة إلى ثلاثة عقول مكتسبة، أي ثلاث ثقافات/ أيديولوجيات مختلفة بدرجات متفاوتة.

أ‌) أيديولوجيا صاحب الدراسة

الأيديولوجيا لا تضبط الخطاب فقط وإنما تعطي صاحب الخطاب جنسيته الثقافية/ الفكرية. وفي هذا يقول الجابري: «هناك في العصر الحاضر قاعدة عرفية تتحدد بموجبها الجنسية الثقافية لكل مفكر، هذه القاعدة تقتضي أن المثقف لا ينسب إلى ثقافة معينة إلا إذا كان يفكر داخلها والتفكير داخل ثقافة معينة لا يعني التفكير في قضاياها، بل التفكير بواسطتها». وبذا يكون الخطاب الإسلامي هو الخطاب المنضبط داخل حدود الشريعة، فلا يقول الزنى حرية ولا الربا تجارة لأن هذه التعابير من مفردات الخطاب غير الإسلامي.

وهذا هو معنى أن المنتمي لثقافة معينة يفكر داخلها، أو يفكر بواسطتها، وليس في قضاياها. وما يجب أن يدركه القارئ هو أن طرابيشي كان يفكر في قضايا الثقافة الإسلامية ولكن من خارجها، فهو ليس مسلما ولا يلتزم بالدين أو الشريعة الإسلاميين، وبذا يكون خطابه غير إسلامي لأن موقعه العقدي/ الأيديولوجي خارج الإسلام ولا يختلف عن مستشرق يفكر في القضايا الإسلامية. والقول في هذا السياق أن طرابيشي مسيحي قول مضلل لأن أيديولوجيا طرابيشي ليست مسيحية ولذا أصنفه مفكرا غير مسلم لأنه حر في عقيدته أو أيديولوجيته ولا رقابة لي عليه فيها، ولكن من حقي أن أقرر أنه من أيديولوجيا/عقيدة غير إسلامية على اعتبار أن أيديولوجيتي/عقيدتي أنا إسلامية. وبهذا الشكل يتمايز «الأنا: المسلم»، عن «الآخر: غير المسلم».

ب‌) أيديولوجيا طرابيشي

هناك تيار انطلق في منتصف القرن التاسع عشر مع إرنست رينان ويحمل لواءه اليوم الدكتور عزمي بشارة، ومن رموز هذا التيار فرح أنطون في النصف الأول من القرن العشرين وجورج طرابيشي في النصف الثاني منه. هؤلاء جميعًا يعملون على مشروع خيري عنوانه «أفضل خدمة يمكن أن نقدمها للمسلم هي أن نحرره من دينه»! هذا المشروع (تحرير المسلم من دينه) دشنه إرنست رينان في مواجهة الأفغاني في باريس سنة 1883، ونقله إلى القاهرة في بداية القرن العشرين فرح أنطون في مواجهة محمد عبده، (وهذه أمور تتبعتها بالشرح في كتابي «مئة سنة من الصراع الفكري»). وما زال المشروع قائمًا وقيد الإنجاز اليوم، وإن لم يعد محل إعلان صريح من حاملي لوائه وأبرزهم الدكتور عزمي بشارة.

ومن الغفلة التحدث عن هؤلاء باعتبارهم مسيحيين لسببين: أولهما تعليمهم أبناء المسلمين لذات المنهج بحيث أصبح الكثير من أبناء المسلمين يعتقدون أن السبيل إلى الحرية مشروط بالتخلص من الإسلام، وإن لم يكن ذلك ممكنًا فلا أقل من التخلص من الإسلاميين، وبمساعدة أعداء الإسلام إذا لزم الأمر. وثانيهما تقسيمي العالم إلى مسلمين وغير مسلمين، والمذكورين آنفًا ليسوا مسلمين، ولذلك لا داعي لإثارة أنهم ماركسيون مثلاً، لأن المسيحي والماركسي يقعان في تصنيف غير المسلمين، ومن ثم يكون نقاش الفرق بين المسيحي والماركسي «نقاشا أكاديميا»: يمكن أن تضيّع فيه أربع سنوات من حياتك تحصل في نهايتها على شهادة دكتوراة تعلقها على الحائط؛ لكن النتيجة هي بقاء المسيحي والماركسي غير مسلمين.

القول إن طرابيشي غير مسلم لا يعني بالضرورة أنه مسيحي كما يعتقد البعض، والقول إنه ماركسي أو مسيحي لا يغير من وضعه الفكري وخطابه الثقافي في نظري شيئًا، لأنه خطاب غير إسلامي وهدفه تحرير المسلم من الإسلام. والقول إن الجابري مسلم أو إن خطابه إسلامي تجنٍ على الحقيقة وسوء تقدير لموقفي منه، لأن الجابري (وهو المعني الأول) لم يقل أنه إسلامي، بل قال إن العقل الذي ينقده هو العقل العربي الذي بإمكانه أن يكون عقلا برهانيا داخل الإسلام. وهذا الموقف هو الذي ذهب بعقل طرابيشي لأن أمله، أو مشروعه - تحرير المسلم من الإسلام- قد وقع في الماء، ليس بفعل الجابري وحده، وإنما بفعل نقاد ومفكرين آخرين قادرين على رؤية المشروع الذي يدافع عنه ويسوقه طرابيشي. ومن هؤلاء رضوان السيد الذي قال لفريق طرابيشي: «ينحصـر عملكم في «تنوير» العرب والمسلـمين بشأن الخلاص من موروثهم الديني».

كان تخليص المسلمين من دينهم «المشروع الخيري» لإرنست رينان في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ومع بداية القرن العشرين استلم راية المشروع (في القاهرة) فرح أنطون الذي توجه بخطابه إلى «العقلاء في كل ملة ودين في الشرق الذين عرفوا مضار مزج الدنيا بالدين في عصر كهذا العصر فصاروا يطلبون وضع دينهم جانبًا في مكان مقدس محترم ليتمكنوا من الاتحاد اتحادًا حقيقيًا ومجاراة تيار التمدن الجديد..»!

ردود محمد عبده على أنطون ونقاشه لموقف الإسلام والمسيحية من العلم والمدنية أفقد هذا الأخير هدوءه فكشف عما بنفسه قائلاً: «فليحجم محمد عبده وغيره عن مثل هذا النقد مسدود الآفاق، ويجلس على مائدة الحوار الوطني العلماني العقلاني مع الآخرين..»! ومثلما فقد أنطون عقله أمام عقلانية محمد عبده فقد جورج طرابيشي عقله أمام دعوة الجابري لنبذ العلمانية والاكتفاء من الحداثة بالعقلانية والديمقراطية. وبهذه المناسبة كتب طرابيشي غاضبًا: «يريد الجابري الاستعاضة عن شعار العلمانية بشعاري العقلانية والديمقراطية. وعلى هذا النحو تتحول الحداثة إلى سوق للخردة نبتاع منها ـ بأبخس الأثمان ـ ما نشاء، وندفع ما نشاء إذا ما تخوفنا من ارتفاع ما في ثمن التكلفة، والواقع أنَّ استبعاد الجابري للعلمانية أشبه بفعل من يُريد أن يجعل كرسي الحداثة يقف على قائمتين اثنتين بدلاً من ثلاث أو أربع»! فهل كان موقف الجابري يحول الحداثة إلى سوق خردة؟ لنرَ ذلك الآن!

ج) أيديولوجيا الجابري

إن عدم تخلص الجابري من موروثه الديني وعدم تنكره للإسلام وعدم تبنيه لمشروع إرنست رينان وخلفائه في المنطقة هو ما سبب تعاسة جورج طرابيشي حتى فقد هدوءه أمام نهج الجابري، وعلى طريقة فرح أنطون الذي انهزم في النهاية أمام محمد عبده، (حسب شهادة سلامة موسى في كتابه «هؤلاء علموني»).

كان طرابيشي يأمل أن يكون موقف الجابري مثل موقف صادق جلال العظم وحسين مروة والعفيف الأخضر، ولكن خاب رجاؤه لأن الجابري لم يرَ في الإسلام عقبة ابستمولوجية في وجه المذهب المادي والعلمانية فكتب يقول بمنتهى المرارة: «صدمني [الجابري] حين كتب مقالة في مجلة اليوم السابع.. يقول فيها «فلنسحب هذه الكلمة ـ يقصد العلمانية ـ من قاموس الفكر العربي! هنا شعرت أن كل الآمال التي علقتها عليه باعتباره رائد ثورة معرفية ـ لا ثورة أيديولوجيةـ سقطت وتهاوت».

وهذا الموقف الذي يجعل العلمانية شرطًا للمعرفة بين لا يقره برهان غليون الذي يقول: «التصنيم الذي شهده مفهوم العلمانية هو الذي يفّسر تعثره وهزاله في المجتمعات والثقافات العديدة غير الأوروبية»! عند طرابيشي الحداثة دون علمانية ليست حداثة، وغليون يرى في هذا الموقف تحويلًا للعلمانية من ظاهرة أوروبية إلى صنم يلوذ به البعض دون جدوى. وهذا التصنيم للعلمانية هو، في النهاية، موقف أيديولوجي وليس موقفًا ابستمولوجيًا، فلا داعي للتدليس!