Atwasat

جريمة حرب..

أحلام المهدي الإثنين 06 يناير 2020, 01:23 مساء
أحلام المهدي

الحرب رصاص وموت ودمار، كتاب عملاق يجري الدم بين سطوره، كل طرف فيها يعيش بين احتمالين موجعين أن يكون قاتلا تتلطخ يداه بدم ضحيته للأبد أو مقتولا لا يكف دمه عن النزف حتى بعد أن يواري الترابُ جسدَه.

"تكفير" فيلم درامي رومانسي مقتبس من رواية لـ "إيان ماكيوان" تحمل نفس الاسم، صَوّرت أحداثُه فترةَ الحرب العالمية الثانية وتحديدا ما عرف بانسحاب "دونكيرك"، الفيلم من بطولة النجمة البريطانية "كيرا نايتلي" والنجم الاسكتلندي "جيمس مكافوي"، أنتج عام 2007 وحصل على أوسكار أفضل موسيقى تصويرية وجائزة غولدن غلوب لأفضل فيلم دراما بالإضافة إلى عدد كبير من الترشيحات لجوائز عالمية أخرى.

أخذنا الفيلم بعيدا عن ضحايا الحرب الذين نعرفهم ونرى معاناتهم بعيوننا، القتلى والأسرى والجرحى ومن فقدوا أجزاء من أجسادهم كل هؤلاء وقعوا ضحايا حرب لعينة مدت مخالبها لتنهش أجسادهم فتغرق في الدم، لكن ثمة ضحايا لا أثر للدم على ملابسهم ولا على جثثهم التي تستمر في التنفس، "ولا نقطة" لأن الحرب غرست مخالبها عميقا في أرواحهم وقلوبهم فسحقتها دون أن تنتبه الدساتير والقوانين ومعاهدات السلام ووثائق حقوق الإنسان.

رغم كثرة الضحايا وتكدسهم في أرض المعركة إلا أن مخرج الفيلم ومن قبله صاحب الرواية جعلانا ننتبه لضحيتين ماتا دون أن يتعرضا لأي أذى جسدي، ماتا دون أن ينزفا أو يرحل جسداهما عن العالم ومثلهما الملايين في كل بلاد دُقّت على أرضها طبول الحرب.

مثل فيلم "تايتانيك" كانت الراوية امرأة عجوز نقلت لنا فعل الموت الذي وقع على الحبيبين هذه المرة، على "سيسيليا" وعلى "روبي" وليس على "جاك" وحده كما في مأساة تايتانيك التي نقلتها لنا الضحية "روز"، لتكون الراوية في "تكفير" هي المجرمة التي قتلت شقيقتها والشاب الذي أحبته الأخيرة في جريمة امتد وجعها عقودا طويلة.

فهم قاصر لمشاعر متأججة على ورقة جعلت فتاة مضطربة المشاعر والهرمونات تثبت جريمة الاغتصاب على بريء، لتبعده عن حبيبته وتجعله أمام طريقين ملغومين أن يقبع في السجن أو ينخرط في الكرنفال الأحمر للحرب، وتدفع الشقيقة الثمن باهظا أيضا فتخسر حبيبها للأبد وتخسر عائلتها التي نبذتها لأنها آمنت ببراءته.

الراوية هي الشقيقة الصغرى التي ارتكبت الجريمة وهي التي غيرت نهاية حزينة صنعتها بشهادتها على أرض الواقع فصنعت على الورق سعادة تمنتها بعد أن أدركت خطأها الفادح وحاولت ببضع كلمات التكفير عن ذنب اقترفته بحماقة طفلة، أعادت روبي سالما إلى وطنه لتكون سيسيليا في انتظاره فعاشا الحياة التي رسما خطوطها بدقة في لقاءاتهما القليلة وفي خيالهما الجامح وقتها.

أتقنت "كيرا نايتلي" الدور حدّ الالتصاق بسيسيليا وهي التي عوّدتنا على انصهارها في الشخصيات التاريخية التي برعت في تقديمها حتى أننا لا نكاد نربط بينها وبين "إليزابيث سوان" في السلسلة الشهيرة قراصنة الكاريبي.

ماتت "سيسيليا" في انفجار ضخم هز ملجأ تحت الأرض ومات "روبي" قبل عودته المقررة إلى الديار عقب انتهاء الحرب دون أن يحظيا بيوم واحد يتقاسما ساعاته، هذه هي النهاية الحقيقية لهما وهذه هي الحرب بجرائمها التي لا نراها، إنها أكبر وأعمق بكثير من تلك التي يعمدها الدم، والجروح الغائرة في أرواح وفي قلوب الضحايا تظل عصية عن الشفاء والالتئام مهما طالت أعمارهم.