Atwasat

الجامعة التي فرّقت الليبيين

نورالدين خليفة النمر الأحد 05 يناير 2020, 12:45 مساء
نورالدين خليفة النمر

يستغرب الألماني، عندما أخبره أن الوسيلة الوحيدة المتاحة، كوني كاتباً لنقل وجهة نظري في الشأن السياسي الليبي بدون موانع الرقابة. هو موقع التواصل الاجتماعي الفيس بوك. الاستغراب الألماني مبعثه أن الفيس بوك هو وسيلة محدودة لأصجاب الأعمال الخوّاص وأغلبهم يعملون من بيوتهم للتواصل مع زبائنهم خواص وشركات لأغراض العمل. أما برنامج التويتر فهو وسيلة لقلّة من أصحاب الرأي لنقل أفكارهم إلى قرائهم المفترضين. وحتى لا أعمّق استغرابه بما يشبه الصدمة لا أخبره بمفارقة أن ليبيا التي من المفترض أنها تحرّرت عام 2011 من الدكتاتورية التي أبرز ممنوعاتها استقلالية التعبي، قد انقسمت عام 2014 إلى كيانين متنازعين اتفقت الحكومتان فيهما على أن لا تصدرا صحفاً تعبرّ حتى عن سياستيهما الحكوميتين. ولكن السبب الشخصي الذي ألجأني إلى فتح صفحة على الموقع، أن الكاتب عمر الككلي كونه المُشرف على باب وجهات النظر، أتخذه منتصف عام 2015 وسيلة وحيدة لاستقبال مقالاتي التي أنشرها بوساطته في صحيفة الوسط. وهذا السبب البرغماتي، قذف بي بتعبير الفلاسفة الوجوديين، إلى الانخراط في معركة التعبير عن الرأي الليبية. وأن أتفاعل ككاتب مع قرائي الليبيين وأغلبهم ربطتني بهم صداقة قديمة لاعلاقة لها بمسألة الكتابة وإبداء الرأي. وبعضهم صادقني بهم الفيس بوك نفسه. لأجد نفسي يوميا منّهماً بكتابة منشورات تأخذُ في أغلبها شكل ردود الأفعال هي بمثابة مواقف شخصية إزاء السياسة المتعلّقة بالشأن الوطني العام.

من مساء يوم 31 ديسمبر حتى مساء 1 يناير 2020 حرمنى موقع الفيس بوك من النشر على صفحتي والصفحات الأخرى، معلّلاً ذلك بأني خرقت معايير الكتابة، بأني حرضّت على الكراهية في منشوري الهجائي الشاتم للجامعة العربية، التي دعا مجلس أمنائها لعقد اجتماع غير عادي بطلب من الدولة المصرية العضوة التي تحوز مقرّ الجامعة لمناقشة التدخل الخارجي ـ والمعني التدخل التركي المحتمل ـ بطلب من حكومة الوفاق الشرعية لصد الهجوم على العاصمة طرابلس منذ 14 أبريل 2019 من طرف مسمى الجيش الوطني المهيمن على شرق ليبيا.

لم يُشعرني الحظر، بالإحراج أمام قرائي الذين بتعليقات بعضهم وإشارات إعجاباتهم وافقوني معبرين عن ضمير المدنيين من سكان العاصمة الليبية المنكوبة الذين يكابدون منذ 9 أشهر تحت القصف العشوائي بالطيران والمدفعية التابعة للقوات المهاجمة المندرجة تحت مسمى الجيش الليبي. بل إن من حظرني من طاقم المراقبة العربية في الفيس بوك لم يعرف قصة الليبيين مع الجامعة العربية التي اتخذت بناءاً على أهواء رئيسها عام 1951 موقفاً سلبيا معترضاً على نيلهم استقلالهم، بل فرّقت بينهم فمال بعضهم إلى رأي رئيسها غير الليبي الذي كان يطمح أن يكون باسم جامعته العربية وصيّاً عليهم.

مواساة لضحايا العدوان على العاصمة طرابلس، وحسن حظ لحكومة الوفاق التي تحوز دون مُنازع، اعتراف المجتمع الدولي الذي تمثله الأمم المتحدة بأن ممثل حكومة الوفاق الليبية كان حاضراً جلسة الجامعة العربية، حيث أبدى استغرابه من استجابة المجلس لطلب عقد الاجتماع في يوم تقديم الطلب نفسه، مذكرا بتجاهل طلب بالخصوص منذ أشهر من الدولة الليبية الممثلة بحكومة الوفاق المُعتدى عليها. كما نوّه بأن التدخل الخارجي والتركي في ليبيا الذي عنت جلسة الجامعة العربية مناقشته تتطلب تحديد المتسبب في الهجوم الحربي على العاصمة طرابلس والذي خرق بتدخلاته كل قرارات الشرعية الدولية ومجلس جامعة الدول العربية. كما طالب الممثل الليبي بموقف عربي موحد لرفض العدوان وإدانته ومحاسبة داعميه، بدايةً من بعض دول الجامعة المثبت تورطهم، ومشيرا في هذا الخصوص إلى أن حكومة الوفاق تعرضت خلال الفترة الماضية لحملات تشويه متعمد وصل إلى محاولات النيل من شرعيتها.

هذه الردود الدبلوماسية المسدّدة آراها إزاء حظري من النشر في الفيس بوك لمدة يوم كامل، جاءت موافقة لأبيات زجلي الهجائي التي لم تتعدّ أساليب الهجاء التي استخذمها الشعراء الكلاسيكيون والرمنطيقيون في هجاء المعتدي عليهم في مدنهم ، ومن يدعمه معنوياً ومادياً. تلك الأساليب التي انتحاها الشاعر والدبلوماسي التشيلي حائز جائزة نوبل العالمية في الأدب بابلو نيرودا في قصيده الهجائي "الحث على إبادة نيكسون والإشادة بالثورة التشيلية" الذي مازال تأثيره فعّالاً فيّ الى اليوم.

أذكر بعد احتفالنا المتواضع بتوديع عام 2015، رجوت ابن السيدة الألمانية التي أقطن شقة في بيتها وكان بالمناسبة زائرها من مدينة ميونخ، أن يفتح لي صفحة باسمي وعبر عنواني الألكتروني وسيلة تواصلي السابقة مع الألمان والليبيين، والتي أحرجني بها أصدقائي من كتاب ليبيا بأن الإميل صار وسيلة قديمة أمام محدثات تواصلية كالفيس بوك والتويتر. ولأني دخلت فراشي الساعة الثانية عشر ليلاً، فكنت مستيقظاً كعادتي الساعة السابعة. بعد الإفطار جلست لأكتب منشوري الأول، توصيفاً أدبيا لصباح أول يوم في العام الألماني الجديد. بعد نصف ساعة تقاطرت عليّ تعليقات أصدقاء قُدماء جُلّهم ليسوا كُتاباً مرحبين بي وإن دخلت متأخراً عنهم فضاء الفيس بوك. المفاجأة كانت تجاوب المرحوم عماد غانم الزميل الجامعي السوري الأستاذ بقسم التاريخ بجامعة طرابلس، الذي انقطعت عني آخباره، فإذا به بمدينة فايمار الألمانية يعالج مرضاً أماته في عام 2018. الذي أثلج صدري أن منشوري عن بون مدينة دراسته الجامعية أعادته إلى نوستلجيا تذكار شبابه.

عند عودتي إلى لبيبا للاستقرار بها 14 .يناير. 2012، وجدتُ أصدقائي منهمكين في فضاء الفيس بوك، وبعضهم بدأ يشكو أن هذه الوسيلة التواصلية بدأت تأخذ ثمين وقته الذي ينبغي عليه تكريسه للقراءة والكتابة الجادة. تبرّمهم هو الذي جعلني أتلكأ وأماطل حتى عام 2016 لفتح صفحة على الفيس بوك. وها أنذا في مفتتح عام 2020 أتموقع بين ندم شعوره يخامرني ويدفعني إلى التراجع والانسحاب وشغفٍ يلّح علّي أن أواصل رحلة الكتابة الفيسبوكية وبالذات في السرديات المجتمعية الليبية المفعمة بالحنين، وقد صار لمنشوراتي التي أكرّسها لهذا المضمار جمهور من المُتتبعات، والمتتبعين المتحمسين لهذا النمط من الكتابة الذي يمكنني أن أطلق عليه وصف إعادة بناء ذاكرة المعيش الماضي أو تعبير الزمن الجميل الذي تواضع عليه الجمهور الليبي في الصفحات التواصلية العمومية .

يمكن عدُّ هذه التوطئة، مدخلاً للكتابة من منطلق شخصي توصيفاً لرّدة فعلي إزاء السياسة كاتباً اختص في الفلسفة وعمل في الإعلام، ثم درس علم السياسة. منتهياً إلى آخر محطتي لكتابة أطروحتي المقترحة عن بنية "الأيديولوجي واليوتوب" في رؤية الفلسفة الإسلامية التي تمثلها كتابة الفيلسوف الأندلسي أبوبكربن طفيل في رسالته التي عنوانها: "حي بن يقظان"، استعارة مربط الفرس في مقالي الذي أبتدئ به عاماً جديداً.