Atwasat

غرنيكا ليبية

أبو القاسم قزيط الأربعاء 01 يناير 2020, 01:49 مساء
أبو القاسم قزيط

الحروب فرن صهر يظهر كل جميل وقبيح في الشعوب، وهي لحظات فارقة تحدد مصير شعوبها لمئات السنين. وللحروب الأهلية رموزها وأبطالها الذين يتحولون عبر الزمن إلى مجرمين ومشبوهين في مخيلة شعوبهم، فالزمن يؤدي إلى تعفن هؤلاء الأبطال والرموز فلا يعودون يعبرون عبر الزمن في ذهنية شعوبهم إلا عن المعاناة والمأساة والمكابدة. هم لا يشبهون أبطال الحركات الوطنية الذين تعتقهم الدهور وتنضجهم العصور، وبمرور الزمن يزدادون بريقاً. هؤلاء الأبطال يظلون مصدر إلهام للأجيال اللاحقة.

لذلك كان موقف الكثير من المثقفين في الحروب الأهلية موقفاً معارضاً للحروب، وحتى وإن كانت مواقفهم السياسية غير معلنة في أغلب الأحوال، نجدهم ضد الحروب وبالتالي يكون موقعهم ورأيهم السياسي والأخلاقي أكثر بعداً عن مسعري الحروب ومن ينفخون على جذوتها.

في الحرب الأهلية الإسبانية، وهي حرب أهلية كانت مشبعة بالرومانسبة الثورية إلى حدودها القصوى، وكانت محج الكثير من المثقفين على غرار إرنست همنغواي وجورج أورويل وغيرهم، وأصبح كل منخرط في السياسة مطالباً بموقف من الحرب الأهلية الإسبانية التي كانت بين أنصار الملكية بقيادة الجنرال فرانكو وأنصار الجمهورية وقلعتهم كتالونيا.

كانت الحرب سجالاً وكان الجميع يتدخل في الحرب الأهلية الإسبانية كما هو الحال في كل الحروب الأهلية. لكن كان هناك دور بارز في دعم فاشية فرانكو من الفوهرر والدوتشي، وكان أنصار الجمهورية مدعومين من اليسار العالمي ومن كعبته الزائفة موسكو آنذاك.

الرائع بيكاسو، رغم كونه إسبانياً، آثر أن يكون بعيداً عن الانحياز لأحد أطراف الصراع، بل ككثير من المثقفين كان يرى أن الموقف الأساسي الذي ينبغي أن ينطلق منه المثقف هو نبذ الحرب والعنف والدمار والانحياز للبسطاء من الناس البعيدين عن مشاريع السلطة، الذين لا يفهمون خبث المؤامرات الدولية لكنهم في ذات الوقت من يدفعون ثمن هذه الحروب وهم حطب نارها الموقدة.

بيكاسو تخلى مرة واحدة عن حياده البارد، عندما قصف الطيران الألماني الإيطالي قرية غرنيكا، مناصرة للجنرال فرانكو، الذي كان يرغب في السيطرة على العاصمة ثم إسبانيا بأسرها، ومحاولة لإرهاب أنصار الجمهورية. كانت غرنيكا مجزرة بشعة راح ضحيتها عدد كبير من المدنيين في قرية غرنيكا.

انتصر بيكاسو للضحايا وخلدهم في لوحة غرنيكا الشهيرة التي أصبحت الرمز الأشهر في العالم قاطبة لمعارضة الحروب وويلاتها ومناصرة السلم.

غرنيكا ليست لوحة ترسم، بل هي موقف أخلاقي سياسي من الحرب والعنف الموجه للمدنيبن الأبرياء.

المثقف الليبي يتسلح بصمت القبور انتظاراً لموجة تعلو حتى يركبها، أو ينحاز بقوة لأحد الأطراف بغض النظر عن صوابية مواقفها، أو يحاول أن يكون في موقف بعيد عن النقد والقدح وهو المستحيل بعينه في مجتمع تحول جزء كبير من نشطائه وسياسييه إلى شتامين.

أليس دور المثقف هو تنوير المجتمع. فإن كان واجباً في الماضي لأن المجتمع جاهل وأمي، فهو اليوم أكثر وجوباً في عصر سرقة عقول الناس بالإعلام الموجه، وسيل الفخاخ التي تنصب للعقول في فضاء الميديا والتواصل الاجتماعي، مما جعل معظم الناس يغرقون في الزيف والوهم والسراب، المثقف هو من بين النخبة القليلة القادرة على العوم في متاهات الوهم هذه.

والمثقف الحقيقي هو مثقف عضوي في التحليل الأخير، لا يمكن أن يدفن رأسه في الرمال وألا ينتصر حتى لمبدأ السلم الأهلي.. فهل هناك من جذوة من الإحساس بالواجب تجاه المجتمع ينفخ فيها، وهل نأمل من المثقف الليبي غرنيكا ليبية.