Atwasat

تسويق الزيف: جدلية الشرعية (1- 2)

أحمد معيوف الثلاثاء 31 ديسمبر 2019, 06:29 مساء
أحمد معيوف

في العام 2011، تكون المجلس الانتقالي، وتآكل التمثيل الدبلوماسي لحكومة معمر القذافي تدريجياً لكن بسرعة لصالح المجلس الانتقالي، وأصبحت المكاتب الشعبية التي كانت تمثل نظام معمر القذافي بعثات سياسية تمثل المجلس الانتقالي وتتحدث باسمه في الدول التي تستضيفها. ووصل عدد الدول التي اعترفت بالمجلس الانتقالي أكثر من 100 دولة في مدة لا تتجاوز سبعة أشهر، وتلاحقت اعترافات باقي دول العالم بعد سقوط النظام تماماً. ولم تكتفِ الدول التي اعترفت بالمجلس الانتقالي باعترافها فقط، بل أرسلت بعثاتها السياسية إلى بنغازي، وشارك العديد منها في إسقاط نظام القذافي.

دور الأمم المتحدة في منح شرعية الحكومات قديم يعود إلى قيامها، ولعلنا جميعاً نذكر دورها في تأسيس الدولة الليبية في منتصف القرن المنصرم، فقد كان هناك تنافس شرس بين الدول المنتصرة انعكس سلًبا على ليبيا، لذلك أحال الأربعة الكبار المسألة الليبية إلى هيئة الأمم المتحدة في سبتمبر 1948 وبدأت مناقشتها في أبريل 1949. لم ينتهِ التنافس بإحالة الموضوع إلى الأمم المتحدة، بل اشتغلت بعض الدول الكبرى على الملف الليبي في اتفاقات سرية بغية تمريرها على الأمم المتحدة، فقد عملت كل من إيطاليا وبريطانيا على إنجاز اتفاق سري بينهما في صورة مشروع يفضي إلى تأجيل استقلال ليبيا لمدة عشر سنوات تتولى خلالها بريطانيا الوصاية على إقليم برقة، وإيطاليا على إقليم طرابلس، وفرنسا على إقليم فزان، وقدم هذا المشروع الذي عرف بمشروع «بيفن – سفورزا» للأمم المتحدة للتصويت عليه وتمريره في شهر مايو 1949. تمرير المشروع كان يتطلب موافقة ثلث الأعضاء الحاضرين، وقد نجح الوفد الليبي في إقناع ممثل دولة هايتي وكسب تأيده لإسقاط هذا المشروع ربما بإيعاز من أميركا، وفعلاً قلب وفد هايتي الكفة لصالح استقلال ليبيا وفشل مشروع «بيفن – سفورزا»، وقد كرم الليبون دولة هايتي بإطلاق اسمها على أحد شوارع مدينة طرابلس كما نعلم جميعاً.

صوتت الجمعية العامة للأمم المتحدة على مقترح قدمته دول العراق والهند وباكستان وأميركا ينص على منح ليبيا استقلالها قبل يناير 1954، ونص القرار الذي اتخدته هيئة الأمم المتحدة على وضع دستور للدولة «الجديدة» تقرره جمعية وطنية تضم ممثلين عن الأقاليم الثلاثة، كما نص القرار على تعيين مفوض خاص من الأمم المتحدة للمساعدة في صياغة الدستور وإنشاء حكومة مستقلة، وقد قام المفوض السامي السيد أدريان بلت وهو دبلوماسي هولندي بتكليف لجنة لصياغة الدستور يترأس هذه اللجنة السيد عمر شنيب ويقوم بأمانتها السيد سليمان الجربي، وتعتمد على الاستشارات القانونية لكل من السيد عمر لطيف مندوب مصر في الأمم المتحدة، وعوني الدجاني مندوب السعودية. ثم قدم الدستور إلى اللجنة الوطنية برئاسة الشيخ أبو الأسعاد العالم التي وافقت عليه بإجماع أعضائها الستين. بعدها قام السيد أدريان بلت بتقديم تقريره إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة التي أقرت الدستور بناء على تقرير بلت تمهيداً لإعلان استقلال ليبيا في 24 ديسمبر 1951م. وقد كرم أدريان بلت بإطلاق اسمه على أحد شوارع مدينة طرابلس كما كرمت هايتي.

جاء معمر القذافي ورفاقة على ظهر دبابة، ليؤسس لنظام جديد يستمد شرعيته من سطوة العسكر، وقوة الدبابة، وغض بصر كبار اللاعبين الدوليين. قام النظام الوليد بتجميد الدستور وتعطيله كمرجعية للحكم، وأبطل القوانين جميعها. ثم سعى رأس النظام في القضاء على منافسية في مجلس قيادة الثورة ليتفرد بالقرار ويدير البلاد حسب أهوائه دون حسيب أو رقيب، بل الأنكى أنه أبطل عمل كل مؤسسات الدولة وأعاد صياغة بعضها لتنسجم مع مخططه الهادف إلى السيطرة التامة على الدولة، فألغى المحكمة واستبدلها أولا بمحكمة الشعب ثم بالمحاكم الثورية التي أصبحت يدها طليقة في تنفيذ أحكام قاسية على كل من انتقد سياساته أو طالب بالتغير.

في العام 2011، تدخل النظام الدولي مرة أخرى عن طريق هيئة الأمم المتحدة بقراره رقم 1970 الذي أدان فيه العنف واستخدام القوة ضد المدنيين وطالب بوقفه، وطالب الحكومة القيام بالعديد من الإجراءات، وأحال الوضع إلى المحكمة الجنائية الدولية، وحظر بيع السلاح لليبيا، وحظر السفر وجمد أموال العديد من الشخصيات الليبية على رأسهم القذافي وأبناؤه. تبع هذا القرار رقم 1973 الذي صدر في 17 مارس 2011 والذي بموجبه تم فرض حظر جوي على ليبيا والتعهد بحماية المدنين، وكان باب تدخل الناتو في مساعدة الثوار في القضاء على النظام، وبذلك انتهت حقبة حكم القذافي في ليبيا بتحرير طرابلس في 20 أغسطس 2011.

لم ينتهِ دور هيئة الأمم المتحدة عند هذا الحد، بل أنشأت بموجب القرار رقم 2009 سبتمبر2011 بعثة للأمم المتحدة للدعم في ليبيا تحت قيادة الممثل الخاص للأمين العام، وقد تناوب على إدارة هذه البعثة عدد من المندوبين بداية بالأردني عبد الإله الخطيب، ثم البريطاني إيان مارتن، فاللبناني طارق متري، فالأسباني برناردينو ليون، ثم الألماني مارتن كوبلر، وأخيرا اللبناني غسان سلامة.

منذا انقلاب أعضاء المؤتمر الوطني على الانتخابات التي أنتجت البرلمان الحالي، تقاسم ليبيا جدل حاد على شرعية الأجسام الموجودة، وكل فريق يصر على أنه الطرف الشرعي الوحيد. فالبرلمان يصر على شرعيته التي منحتها له صناديق الاقتراع، وبقايا المؤتمر الوطني يصر على شرعيته استنادا لحكم المحكمة الدستورية التي استندت في حكمها إلى عدم شرعية جلسات المؤتمر التي أسفرت عن إنشاء لجنة فبراير.

لحل إشكالية الشرعية، عملت الأمم المتحدة عن طريق مبعوثها الى ليبيا السيد برنردينو ليون في جر الخصوم إلى حوار الصخيرات الذي أسس لشرعية أخرى غير شرعية الصندوق وشرعية المحكمة، فكانت الاتفاقية هي تحايل على قرار المحكمة والصندوق لإرضاء أطراف النزاع الرئيسية وهي المؤتمر منتهى الولاية والبرلمان، وأسفر عن الاتفاقية تكوين ثلاثة أجسام تتقاسم الشرعية وهي البرلمان الجسم التشريعي ومجلس الدولة الجسم الاستشاري والمجلس الرئاسي الجسم التنفيذي. وبقبول الاتفاقية وتوقيعها انتهىت الشرعية المتصارع حولها وحلت محلها شرعية الاتفاق الذي أقرته وأشرفت عليه الأمم المتحدة واعتمده مجلس الأمن في قراره رقم 2259 العام 2015.